q

يقول العلماء والمصلحون، أن الثقافة الحقيقية والقيم الأصيلة في حالة تلازم دائم، لا يمكن الفصل بينهما، حتى عبر كثيرون عن ذلك بأن الثقافة والقيم وجهان لعملة واحدة، وهي بالفعل كذلك، فلا ثقافة مؤثرة من دون مساندة القيم لها، ولن تكون القيم مؤثرة في المجتمع ما لم تسندها ثقافة تمثل هوية المجتمع كونها مسمدة من جذوره المتميزة وليست الرديئة.

هكذا يؤكد العلماء والمعنيون بالثقافة أنها تدعم القيم الانسانية، وتساعد على نشرها وترسيخها، فأينما تجد الثقافة الجيدة سوف تجد مجتمعا متمسكا بقيم ايجابية متميزة، وهذا هو الهدف الأساسي من اهداف الثقافة، يجري وفق طرائق وأساليب ثقافية متعددة، قد تختلف في المسارات والاجراءات، لكنها تلتقي بالنتيجة، في دعمها للقيم التي تقلل من العادات والتقاليد والقيم غير الجيدة في المجتمع، أي توجد هناك حالة من التضاد التام بين ما هو جيد وفاعل ومؤثر، وبين ما هو شكلي من القيم الفاعلة.

أما كيف تكون الثقافة مؤثرة، والقيم تشترك معها في تحقيق الأهداف السامية للمجتمع، فإن ذلك لا يمكن أن يتم من دون وسيط فاعل وحيوي، متمثلا بالمثقف، فالمعروف أن المثقف أداة الثقافة، من خلال فكره وابداعه ونشاطه في ميادين متعددة ايضا، إذ لابد من دحض الفكرة التي تقول أو تؤكد على ان المثقف انسان يختلف عن الاخرين، ويعلو بمستواه عليهم، بل هو جزء مهم منهم ولا ينبغي أن يتعالى عليهم أو ينفصل عنهم لأي سبب كان.

ويؤكد العلماء والمصلحون على هذه النقطة المهمة، إذ لا يصح مطلقا أن ينطوي المثقف تحت شعور التميز عن عامة الناس، ولا ينبغي أن يعزل نفسه بسبب الشعر بالتفرد والامتياز الفكري او الابداعي، فهذا الامر يستدعي تقاربا من الجماهير وليس تباعدا عنهم.

هذه هي تأكيدات الحكماء، أولئك الذين يسمونهم بصمام الأمان، فهؤلاء يربطون تأثير المثقف بوجوده بين الناس، لذلك عليه ان ينعزل في برج عال!! هذه النظرة خاطئة بطبيعة الحال، المثقف الجيد، هو انسان يتميز بقدرته على التأثير بالآخرين، وهذه السمة او الميزة، تتطلب أن يكون المثقف مثل غيره، من حيث الانسجام والتناغم وإقامة العلاقات الاجتماعية الناجحة، حتى يكون مؤثرا بفكره على الجميع، وتكون له القدرة على تصحيح الخاطئ من الأفكار لاسيما التقاليد والعادات وانواع السلوك الوافدة مع الثقافات الدخيلة.

العراقيون وتجاوز المرحلة الحرجة

كما هو واضح اليوم للجميع، هناك مخاطر كبرى في مجال السياسة والاقتصاد وسواهما، يحاول العراقيون التصدي لهذه المخاطر، ولعل الفساد هو حجر الزاوية في هذه المخاطر، والفساد هنا ليس السياسي فقط، او المالي، او الاخلاقي، انما نعني الفساد بكل انواعه لاسيما ذلك الذي تتسبب به وتقف وراءه درجة الفساد الكبيرة في القيم، فعندما تفسد القيم يفسد كل شيء، ويغدو العلاج ضربا من المستحيل.

لذلك ليس أمام العراقيين سوى الثقافة والقيم لعبور هذه المرحلة الحرجة بما لا يتسبب لهم بآلام جديدة تضاف لآلامهم القديمة، ففي هذه المرحلة الصعبة التي يحاول ان يتخطاها العراقيون والدولة العراقية بأقل الخسائر، هناك مخاطر واضحة تتعرض لها منظومة القيم، إذ نلاحظ وفود وظهور قيم خطيرة تحاول ان تزرع نفسها بين اوساط المجتمع العراقي، وقد اشرنا لهذا الجانب أكثر من مرة عبر كتابات سابقة.

إن أي خلل يطول القيم الجيدة، ويحاول أن يطفئ تأثيرها ويزيله عن المجتمع، هو الخطر بعينه، فعندما يتمكن الآخر الذي يكن لنا نوعا من العداء قادرا على شل القيم او تدميرها، هذا يعني انه تغلب علينا وحقق مآربه، ولذلك يكون هناك سعي لنشر قيم مسيئة رديئة، ومن هذه القيم ما يشكل خطرا جديا على المنظومة الاخلاقية والعرفية التي يؤمن بها المجتمع العراقي، كون معظمها يتجذّر منذ مئات السنين في المجتمع، لدرجة انها تراكمت منذ مئات السنين.

فتشكلت منظومة ايجابية تمكنت من حماية المجتمع لاسيما من الثقافات الوافدة، وبقيت هذه هذه المنظومة تنتقل من جيل الى جيل، مع الحفاظ عليها واضافة ما يدعمها، ولكن ظهرت مجموعة من القيم تحاول ان تزعزع البناء القيمي للمجتمع، منها على سبيل المثال قبول السلوك الخاطئ على انه حالة طبيعية او قيمة يدخل في اطار القيم المقبولة كالهدية التي قد تكون بدافع الرشا (الرشوة)، والاختلاس والتجاوز على المال العام، مثل هذه الظواهر والقيم لم تكن موجودة في المجتمع العراقي، لماذا تغلغلت الان في نسيجه؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟.

تعزيز القيم ومسؤولية المثقف

المثقف هنا يتحمل جانبا من المسؤولية في هذا المجال، لذا هناك عجز في الثقافة والمثقفين للقيام بدورهم في تعزيز القيم الاصيلة ونشرها وتجذيرها اكثر فأكثر بالاوساط الاجتماعية المختلفة، التي تنعكس على الاوساط السياسية وغيرها، فعندما يظهر سياسيون فاشلون أنانيون، هذا دليل على ان الحاضنة الاجتماعية فاشلة، وفشل هذه الحاضنة يعود الى فشل منظومة القيم، وفشل هذه المنظومة يعود الى فشل الثقافة والمثقفين في القيام بدورهم كما يجب، وهو امر لا يمكن نفيه أو إنكاره، اذا توخينا الدقة وقررنا وضع النقاط على الحروف.

لا يمكن للمثقف ولا الثقافة أن يحققل شيئا ذا أهمية او ذا بال في المجتمع ما لم يكن هناك تخطيط مسبق لنشر القيم بصورة عملية تنطلق من قاعدة فكرية مكتوبة مسبقا من خبراء في الميدان الاجتماعي، فالعشوائية في هذا المجال غلى نحو الخصوص، لا يمكن أن تصل بالثقافة والمثقفين الى اهدافهم، وبكلمة اخرى، لا يمكن حماية القيم من دون تخطيط لمضامينها وكيفية نشرها وترسيخها في النسيج المجتمعي.

هكذا يكون التعاضد متبادلا بين المثقف والثقافة من جهة، وبين القيم الجيدة من جهة اخرى، بهذه الطريقة يمكن للثقافة أن تعزز القيم وبالعكس، من هنا لابد من بوادر تعزز القيم، تتبناها الثقافة، ويخطط لها المثقفون، وتنفذها المؤسسات والمنظمات المعنية، وفق خطط دقيقة، من حيث الأفكار والاجراءات، فقضية تعزيز القيم لا يمكن ان تكون في الهامش، ولا يصح الانشغال بالشكليات وترك الاهم مما يحتاجه المجتمع، كي يحافظ على نسيجه ومزاياه، لذا ليس امام المثقفين سوى التصدي الفاعل لهذه القضية، ليشترك الجميع في وضع السبل والآليات التي تسهم في الوصول الى هذا الهدف، ونعني هنا بالمثقفين اولئك الذين تهمهم بالفعل قضية نشر الثقافة الحقيقية والحفاظ على القيم الانسانية المؤثرة.

ربما يتحجج بعضهم، أن الثقافة غير معنية بالقيم او الاخلاق وما شابه!، وربما يحصرها بعضهم بالأفكار، وقد يذهب بعضهم الى نبذ القضية الرسالية للمثقف والثقافة، فهناك من أعلن انه غير معني بالقيم ولا الاخلاق، مدعيا أن مهمته ابداعية بحتة، لكن المثقف الحق والثقافة الحقة تدعو الى التصدى لكل القيم الدخيلة التي تحاول خلخلة البناء المجتمعي، وتسعى لبث سموم خبيثة على شكل قيم وافدة لا تتسق مع التكوين القيمي الاخلاقي، الديني، العرفي لمجتمعنا، فالثقافة والقيم الجيدة لا يمكن فصلهما عن بعضهما، اذا ما أردنا ضمان مجتمع متطور مستقر وواعي.

اضف تعليق