تصور البعض أن "الوحدة" بين الشعوب والدول والاقتصاديات والجيوش، أمراً مستحيلاً، منطلقين من المفهوم الخاطئ للوحدة بأنها تعني الاندماج الكامل والذوبان وضياع الهوية، وأن الشعوب وحدها من يتحمل الافرازات السلبية لهذه التجربة قبل الحكام واصحاب الرساميل، بيد أن الذين حققوا نجاحاً نسبياً في هذا المجال جنوا مكاسب عديدة لاسيما على الصعيد الاقتصادي عندما طبقوا هذا المفهوم بشكل احتفظ بخصوصيات الشعوب ومصالح الدول، واستجمع القدرات وصهرها في بوتقة نظام اقتصادي يحقق مصالح الجميع، كما هي تجربة الاتحاد الاوربي.
نفس الطريقة في الفهم، نحن بحاجة ماسّة اليها للتخلص من براثن التخلف الذي يمثل نقطة انطلاق معظم الازمات القاتلة في بلادنا، إذ ثبت أن المشكلة بالدرجة الاولى ليست في سياسة الحكم ونمطه، ولا في الغنى بالثروات والخيرات، إنما في القدرة على استثمار هذه الثروات وبلورة الرؤية الصحيحة لنظام الحكم المفيد لغالبية الناس. فما أكثر الحكام في بلادنا! وما أكثر الاموال والثروات عندنا على طول التاريخ! بيد إن كل هذه القدرات تُدار بعيداً عن العلم والمعرفة والحكمة، فنقرأ في السابق ثم نعيش اليوم، ما يشبه المسلسل المتواصل من الازمات والكوارث، ونردد: "ما أشبه اليوم بالبارحة"، أو أن "التاريخ يعيد نفسه". طغيان وانحرافات في السلطة الحاكمة، وهدر للأموال والثروات، فالديكتاتورية التي نتداولها اليوم كمصطلح سياسي حديث، كانت عينها قائمة في العهد الأموي والعباسي، وكذا الحال في الوضع الاقتصادي.
الدعوة ليست خاصة بعلماء الدين!
ربما يتبادر الى اذهان الكثير بأن علماء الدين هم المدعوون اكثر من غيرهم للوحدة في الرؤية والقرار لما يفيد لأمر قيادة الامة لمواجهة التحديات والازمات، كما يحصل اليوم وبنجاح باهر ربما نُحسد عليه في العالم، في ضوء تجربة "الحشد الشعبي"، بيد أن هذا لا يلغي بأي حال من الاحوال سائر العلماء من الاختصاصات الاخرى ذات المدخلية في أمر النهضة الشاملة في الثقافة والاقتصاد والسياسة وغيرها.
إن وجود الاعداد الكبيرة من العلماء في مجالات حيوية مثل الهندسة والطب والقانون والاقتصاد مع وجود أزمات متراكمة في المقابل، يدعو الى التفكير في عملية التقارب واستقطاب الخبرات والتجارب لتكون في مسيرة واحدة. فكما أن علماء الدين من شأنهم تحقيق الحرية والكرامة والاستقلال للشعوب، كما حصل في تجارب باهرة ورائدة في تاريخنا المعاصر، فان العلماء الآخرين في الاختصاصات الاخرى من شأنهم ايضاً الاسهام في تغيير الواقع الفاسد للشعوب بتوحيد الجهود العلمية وتوجيهها نحو أهداف مشتركة، كأن تكون في طريق التخلّص تدريجياً من التبعية الاقتصادية من خلال تأهيل الكوادر العلمية والتفكير بخطط استثمارية وتنموية وغير ذلك كثير من الخطوات المشتركة التي يمكن لرجال العلم في المراكز الاكاديمية اتخاذها.
الرؤية المشتركة وتدخلات الحكام
اذا عرفنا أن الجامعات هي التي تخرج علماء الهندسة والطب والاقتصاد وغيرها، فمعنى هذا تأثر هذه الشريحة المهمة والمؤثرة بالقرارات السياسية للنظام الحاكم، فكلما توجه نحو الانفتاح السياسي والتداول السلمي للسلطة، كلما انعكس ذلك على المسار الاقتصادي ثم الاجتماعي واستقرت الاوضاع بشكل عام، أما العكس؛ فان التوجه نحو الفردية والاستبداد والاستئثار بالسلطة الثروة، فان المآل لن يكون سوى ما نشهده في بلادنا خلال العقود الماضية.
وهذا يعني أن مجرد فكرة توحيد جهود وعقول العلماء يمثل جرس إنذار خطير لمن يفكر بالسلطة لمعرفته بأهمية العلم في ديمومة النظام السياسي وامكانية تجييره سياسياً، كما حصل في عديد الانظمة التي حولت علماء الهندسة من بناة للمساكن ومشغلي لمصانع السيارات والنسيج والمواد الغذائية والانشائية، الى أدوات لبناء الترسانة العسكرية من خلال توجيه قدراتهم العلمية في صنع وتطوير الصواريخ بمدايات متصاعدة. وكذا ما يتعلق باسلحة الدمار الشامل.
من هنا نلاحظ الخشية الدائمة للحكام من العلماء، وهذا لا يقتصر على عهد صدام في العراق، وسائر الحكام الفاسدين في البلاد الاسلامية، وإنما يسحب الامر الى عمق التاريخ، لاسيما في الفترات التي كان العلم مشاعاً للجميع، وكانت البلاد الاسلامية من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، تتميز بالحواضر العلمية المنتشرة هنا وهناك، لذا نلاحظ الحرص المتواصل على تفريق الجمع، او زرع بذور الخلافات أو حتى التهديد بالتصفيات الجسدية، لتحقيق هدف اساس وهو الحؤول دون بلورة رؤية موحدة وتحديد هدف مشترك يسعى نحوه الجميع.
وفي كتابه "لكيلا تتنازعوا" يشير سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الى هذه الحقيقة الغائبة عن الاذهان في نجاح العديد من علماء الدين في سالف الايام، بالقيام بأعمال كبيرة تركت أثرها في الاجيال اللاحقة. ومثاله في ذلك السيد حسين القمّي، الذي عُرف عنه حرصه تقويم أي نوع من انواع الانحرافات في السلطة والمجتمع، وكان يقضّ مضجع الشاه البهلوي الأول (رضا شاه) بانتقاده الشديد لمظاهر الفساد بكل اشكاله. فنفاه في اربعينيات القرن الماضي الى العراق، فاستقر به المقام في كربلاء المقدسة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحصول التغييرات الكبيرة، ومنها انتهاء صلاحية الشاه الاول وانتزاعه من كرسي الحكم على يد البريطانيين انفسهم، ومجيئ ابنه (محمد رضا) على قمة السلطة، عاد السيد القمّي على موطنه وهو يحمل نفس الرؤية والهدف، فأول ما فعله، مطالبة الشاه الجديد، بتطبيق الاصلاحات التي عوقب بسببها في الماضي، وقد تحقق له ما يريد بنسبة كبيرة.
يقول الامام الشيرازي في هذا الكتاب، إن السيد القمي توجه الى العاصمة طهران برفقة والده (الميرزا مهدي الشيرازي)، وعدد من علماء الدين، واستقروا لفترة طويلة وهم يتابعون أمر تطبيق الاصلاحات وإزالة آثار الفساد من البلاد. ويؤكد سماحته بأن "الى اليوم ينعم الايرانيون بنتائج الاعمال الجبارة التي قام بها – السيد القمي- في ايران".
إن الرؤية السياسية المحددة والتفكير بمزيد من الهيمنة والاستحواذ على مقدرات الامور، مما لايغيب عن ذهنية الحكام ممن خبرنا سياساتهم الديكتاتورية والقمعية. لذا فهم يسعون دائماً الاستفادة من العقول للتخطيط والبناء لمستقبلهم السياسي ومصالحهم الخاصة، وليس لمصالح البلد والشعب مهما كانت النتائج كارثية. وما يجري في العراق تحديداً، يجب ان يكون – بالحقيقة- رسالة الى جميع من يحمل رسالة العلم وأمانة المعرفة بأن يفكروا بتوحيد الجهود العلمية كما يفكر الآخرون بتوحيد جهودهم السياسية، بما من شأنه التأثير على القرار السياسي العام وتوجيهه الوجهة التي تسهم في إنقاذ البلاد مما هي عليه.
اضف تعليق