الناجحين في الحياة، من قادة محررين وعباقرة مبدعين وأمثالهم، تعلموا النجاح من الشجرة التي تضمن الاخضرار والاستمرار ثم العطاء ثمراً يانعاً، عندما تضرب بجذورها أعماق الأرض، حيث عوامل الحياة، من مياه وأملاح، أما اذا كانت على ربوة عالية، فحتى لو اقتربت منها المياه فانها ستحور حولها ثم تذهب بعيداً عنها، لتبقى دون عناصر حياة وتتحول الى خشبة يابسة وربما تتحول الى حطب يصلح للتدفئة!.
هذه المعادلة تتجسد في نبات يعمل وفق دورة طبيعية، بيد أن البعض من بني البشر، ورغم وجوده بين فرص النجاح المتعددة، نراه يتعثّر في الطريق او يذهب في اتجاهات بعيدة عن الاهداف المنشودة. ومن هذه الفرص الاقتراب من الطموحات المشروعة والمطاليب الحقّة للمجتمع، وقد جرّب هذه المعادلة زعماء وقادة في العالم، ونجحوا في ادارة شعوبهم وتأسيس أنظمة حكم على أنقاض أنظمة ظالمة وديكتاتورية، وبمقدار تجسيد تلكم الطموحات، تكون النتائج الحسنة. وربما تصل القضية الى حد التضحية بالنفس وبكل شيء يملكه الانسان، فتيحول الى رمز خالد ونموذج يحتذى به، بل وتستقي من فكره ونهجه الاجيال، وهذا ما نلاحظه في مسيرة علماء دين ثائرين ضد الظلم والطغيان ، فنادوا بقيم انسانية قبل ان تكون دينية مثل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
هذه العملية سهلة بالكلام والنظرية، بيد أن ثمة عقبات تعترض من يطبقها، إلا تحتاج قبل كل شيء الى التضحية بالمصالح الشخصية والذات والانانية، فهذه تمثل مقدمات تمهد الارضية للتضحية بالنفس والاستشهاد – مثلاً- في أقبية السجون أو على منصات الاعدام. وإلا هنالك الكثير ممن يرون أنفسهم في صف النخبة الثقافية والعلمية، ويعدون لأنفسهم منزلة خاصة في المجتمع، كأن يكونوا دائماً في المقدمة، سواءً في المجالس والمحافل العامة، او في الحصول الامتيازات وغيرها، وليس من السهل الاتصال بهم و التعاطي معهم بسؤال او انتقاد او ملاحظة او غير ذلك.
ولمن يلاحظ كثرة الازمات في بلادنا مع كثرة النخب الثقافية والعلمية وحتى الدينية، لابد أن يلفت نظره قلة تصدّي هذه النخب لقضايا الشعوب والامة، ومما يؤسف له أن البعض إن اراد ان يخرج من دائرة الذات دفعاً للحرج، فانه لا يكاد يخرج من دوائر الاهتمام بالمحيط الجغرافي او الانتماء الاثني او الميول السياسية المصبوغة بالمصالح الخاصة، لذا عندما يرحل عن قافلة الحياة لن يلفت اليه أحد، ولا يشعر الوجدان العام بالأسف عليه، إذ لا مبرر لذلك عندما كان في حياته يشعر بالاستغناء عن الآخرين وعدم الحاجة الى حمل معاناة وقضايا الناس، بل واحياناً نسمع من بعض هذه النخب كلمات تقريع وتشهير ضد عامة الناس والامة برمتها وترديد مقولات بائسة تكرس اليأس في النفوس، من قبيل "أمة اقرأ لا تقرأ"، او "شعوب ذات قابلية على الاستعباد" و.... غيرها كثير من العبارات التي تسوغ لصاحبها الانسحاب بهدوء من الساحة، وعدم التورط في المواجهة المحتدمة دائماً بين المجتمع والدولة، وبين جماهير الشعب وبين الحاكم الظالم.
ومن ابرز الامثلة الحيّة والنابضة هذه الايام، يمكننا الاشارة الى الشهيد آية الله الشيخ نمر النمر الذي ضحّى بنفسه من اجل كلمة حق بوجه سلطان جائر، يطالب من خلالها بحقوق مشروعة لابناء شعبه وأمته، قبل أن يطلب لنفسه أي شيء. وإلا كان بامكانه ان ينهج اسلوباً رقيقاً في الخطاب والتعبير يحفظ به حياته ويجنب نفسه الاعتقال والتحقيق فضلاً عن التعذيب وحدّ السيف. وهذا لا يعني بأي حال من الاحوال، أن كل من صدح بقول الحق والحقيقة، كان مصيره الموت، كما حصل بالنسبة للشيخ النمر، بيد أن "العبرة في النتائج"، فالناس تحتاج الى من يحمل همومها ويستشعر آلامها ويعبر عن طموحاتها، وهذا بحد ذاته يخيف كل نظام حكم وطاغية مهما كانت قدراته، وفي نفس الوقت يبعث روح الأمل في النفوس بالتغيير وتحقيق الاهداف المنشودة.
المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه- يشير الى هذه الحقيقة في "السبيل الى إنهاض المسلمين" عندما يتحدث عن شروط نجاح النهضة لدى النخبة المتصدّية مستشهداً بالحادثة التي وقعت للإمام علي، عليه السلام، مع ذلك الشخص الذي رفض وساطة الامام في خلاف مع امرأة اشترت منه التمر وتريد ارجاعه، وبعد اعتذاره عن تصرفه السيئ مع الامام واعتراضه عليه، قاله له، عليه السلام: "...ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك وأرضيت الناس عن نفسك"! ويصف سماحته هذه الكلمة بـ "الكبيرة وسر النجاح، وهو دستور ليس للزعماء فحسب، بل لكل انسان يريد ان يعيش بسلام ويكون محبوباً عند الجماهير".
إن التفاعل الكبير الذي حظي به الشهيد النمر، ليس فقط على الصعيد الاسلامي، وإنما العالمي، لم يأت بالمجان، فالتبني السنّي والمسيحي والاعلامي العالمي وغيره، لقضيته لم يكن لولا تبنيه هو لقضية شعبه وأمته، وتفجير دمه أمام العالم ليشهد العالم بأم عينه ويلمس حقيقة النظام السعودي الذي طالما حاول رسم صورة مغايرة لدمويته وجاهليته. فكان الشيخ النمر هو الفدائي الذي أماط اللثام عن هذا الوجه القبيح، فجاءت صرخات التنديد والاستنكار من كل مكان ليس فقط تنديداً بقرار الاعدام، وإنما نصرة لقضية الشيعة في المنطقة الشرقية. و ربما يكون هذا من دروس النهضة والتغيير والإصلاح لمن يريد ان يكون في طليعة مجتمعه وشعبه.
اضف تعليق