في أول تجربة مع أسرى الحرب في "معركة بدر"، بادر النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، الى استثمار فرصة التعلّم لانتشال اصحابه وجنده من الأمية، فجعل تعليم القراءة والكتابة، للمسلمين، بمنزلة الفدية لإطلاق سراح الأسرى المشركين. وهكذا كانت البداية في تعزيز الثقة في النفوس بالقدرات الذاتية وعدم الاعتماد على الغير لتحقيق الاهداف المنشودة.
ومع الابعاد الواسعة لقدرات الانسان، والامكانيات العالية في تقديم الأفضل باستمرار، فان هذه القدرات تبدأ من نقطة، وتستمر دون توقف، وقد أكد العلماء منذ عقود من الزمن أن الانسان، بعد لم يستفد إلا جزءاً يسيراً من دماغه، رغم أن الكشف جاء بعد توصل العلماء الى مكتشفات واختراعات ونظريات باهرة، بمعنى أن هنالك مجالاً مفتوحاً أمام الانسان للتطوير المستمر، فعندما صنعت السيارة – مثلاً- وانتشرت في العالم، بدأ انسان العالم الثالث بتعلّم قيادتها، وهذا يعود الى حوالي قرن من الزمان، بيد أنه لم يتقدم الخطوات الكافية لأن يكون هو المصنّع والمبدع في هذا المجال، إلا ما تدفعه بعض المصالح التجارية فيكون المجمّع لمكونات السيارة خدمة لمصالح معينة.
في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين" يعد سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- مسألة الاعتماد على القدرات الذاتية بأنه "يصنع العجائب"، كما يعدها المائز بين الناجحين في مجالات مختلفة وبين الآخرين الذين لم يتحركوا ويستفيدوا مما لديهم من قدرات ذهنية وعضلية. هذه الثقة العالية بالقدرة الذاتية على تحقيق النجاح، لا تاتي من فراغ قطعاً، إنما هي نتاج إيمان الانسان وقناعته الراسخة بأنه لن يخيب في عمله مهما طال الزمن وأنفق وأجهد.
لكن قبل هذا، علينا أن نتذكر أن لا فائدة من إثارة الحديث عن القدرات الذاتية وعدم الاعتماد على الخارج، في ظل الازمات السياسية والاقتصادية، ففي هذه الحالة لن يكون من السهل تحويل الانسان المعتمد كليةً على السلع المستوردة او البرامج والخطط المعدة سلفاً، الى مكتفٍ بعقله وقدراته بين ليلة وضحاها، فالشعوب لم تنهض اقتصادياً ولم تتخلص من الحرمان والتبعية، إلا بعقود طويلة من الكدح في المعامل الكبيرة والورش الصغيرة، والقناعة بالأجر الزهيد مقابل وفرة في الانتاج والتصدير، ثم الاحتكاك بالعالم الخارجي واكتساب التجارب والخبرات العلمية. بمعنى أن المسألة لن تكون ذات بعد معنوي دائماً، فالايمان والثقة العالية بالنفس لن تنشئ مصنعاً ضخماً او تقيم مشروعاً زراعياً أو تؤسس لنظام قضائي أو أمني او غير ذلك بين ليلة وضحاها، إذ لابد من الاخذ بعين الاعتبار عامل الزمن والاسباب والعوامل الموضوعية الاخرى ذات الصلة بالنهضة الشاملة.
ولعل هذا ما يفسّر اهتمام سماحة المرجع الراحل في مؤلفاته وايضاً محاضراته، وبشكل مكرر، على الاكتفاء الذاتي ومحاولة فك الارتباط كليةً بالخارج، وفي المجالات كافة، وفي "السبيل الى إنهاض المسلمين" يفرد فصلاً خاصاً في هذا الجانب ويتحدث بإسهاب عن علاقة الاكتفاء الذاتي بالنهوض الحضاري في الاسلام، كما يشرح الآلية والطريقة التي ربما لا تغيب عن الكثير، لاسيما في الوقت الحاضر، حيث عرف الجميع اسباب التبعية للخارج، وأن عليهم التوقف عن استيراد كل شيء.
هنا؛ وفي نقطة الانطلاق نحو البناء بالقدرات الذاتية او "الاكتفاء الذاتي" وبشكل تدريجي، نكون بحاجة الى "الإيمان" والثقة العالية بالنفس بتحقيق النجاح، كما نحتاج الى جهد خاص لتمزيق حجب اليأس والاحباط التي تخيم على الكثير بسبب بعض المشاكل التي يسببها الساسة وأهل الحكم في هذه الدولة أو تلك، كما لو أن هذه الحكومة او تلك، أو هذا الوزير او تلك الشخصية السياسية هي كل شيء في حياة الشعوب والأمم، ولم يكن هذا المدّعي القدرة والمكنة السياسية والمالية، يوماً انساناً يبحث عن شخصيته ومكانته في المجتمع.
ولا يفكر أحد أن هذا الايمان يمكن استحصاله من هكذا نماذج في بعض الدول، إنما هو موجود في كلام ونهج شخص مثل أمير المؤمنين، علي بن ابي طالب، عليه السلام، الذي يحفّز في النفوس روح الثقة العالية والايمان بالقدرات الذاتية، حيث يقول في حديث منظوم:
داؤك منك ولا تبصر دواؤك فيك وما تشعر
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
واذا كانت مسيرة النهضة والبناء والاصلاح، تتطلب زماناً طويلاً، فان عامل الايمان يجب ان يكون ملازماً لهذه المسيرة، فهو الداينمو والمحرك والمحفز على المضي قدماً في هذا الطريق. ولعل مثالنا الأبرز في هذا المجال ما يمر به الشعب العراقي من وضع اقتصادي خطير وهو مهدد في منطقة حساسة من بنيته الاقتصادية متمثلة بالاحتياطي النقدي الذي تقوم عليه قيمة العملة المحلية، ومع اعتماده الكلي على النفط والتراجع المخيف في الاسعار هذه الايام، مما يجعله أكثر من أي وقت مضى أمام آفاق سوداوية. لكن مع ذلك، فان الوقت الراهن يمثل فرصة بحد ذاته للانطلاق مؤمنين بقدراتنا الذاتية لتلافي أي تأثير للتحديات الاقتصادية على الحياة العامة، ثم التفكير على البعد المستقبلي.
واذا كان العراق يعتمد حالياً في معظم الحقول والجوانب على الخارج، فان اختبار القدرات الذاتية يجب ان يكون هو الآخر في الحقول والجوانب كافة، العلمية منها أو الانتاجية، في مجالات الزراعة والصناعة والطب والتجارة وغيرها من الحقول الحيوية.
اضف تعليق