نعني بالثقافة الراسخة، تلك التي يكون بمقدورها المشاركة الفعالة في بناء الدولة والمجتمع، من خلال توجيه مسارات الوعي المجتمعي الذي ينعكس على السلوكين الفردي والجماعي، فالثقافة كما يؤكد الخبراء هي التي تصنع فكرا ووعيا متقدما للمجتمع، وهذا بدوره يعود بالنفع المؤكد على الدولة ومؤسساتها ونشاطاتها المختلفة، وفي الخلاصة ينعكس الوعي على تحسين الحياة، وهذا هو الهدف الأساس للثقافة في حياة الأمم والشعوب كافة.
في العراق تظهر لنا المؤشرات غياب الدور الفاعل والمؤثر للثقافة، فمن يتابع الانشطة الثقافية في العراق.. سيلاحظ أنها كثيرة ومتعددة، حيث نجدها في عموم المحافظات العراقية، فضلا عن العاصمة التي تعد حاضنة ثقافية مهمة تحفل بنشاطات في الادب عموما، وفي الفن التشكيلي والسينمائي والمسرحي، وثمة تقليد اسبوعي يتابعه المثقفون والادباء والفنانون، في شارع المتنبي الذي وصفه المعنيون والمهتمون، بأنه رئة الثقافة العراقية، هذه المؤشرات السريعة تدل على وجود حركة ثقافية فنية تنبثق بصورة متواصلة في عموم مساحة العراق، وقد دعا كثيرون الى تكرار وتحديث تجربة متنبي العاصمة في المحافظات.
وهذه دعو جيدة في مضمونها، كونها تهدف الى مضاعفة دور الثقافة في حياة المجتمع العراقي، ولكن ثمة مشكلة تعترض هذا النشاط الثقافي الفكري الفني المتواصل هنا وهناك، سنأتي على ذكرها، إذ أن المراقب المعني او المهتم، حينما يقف جانبا ويتطلع الى المشهد الثقافي، سيلاحظ من دون شك غياب الاستراتيجية الثقافية التي تضم بين دفتيها هذا الحراك المتواصل، وهذه الانشطة المتنوعة، إذ أنها توحي بحالة من التشرذم الثقافي غير مسبوقة، لذلك ينبغي أن تكون هناك دقة في التعاطي مع الأنشطة الثقافية في عموم البلد.
احترام الثقافة ضمان للمستقبل
إن تحسين الحياة كما أسلفنا، يعتمد على ثقافة مدروسة وليس ارتجالية او عشوائية، فالأصل في الثقافة، كما في كل مجالات الابداع الاخرى، ليس الكم بالدرجة الاولى، وإن كان للكم تأثيره المعروف، ولكن يتمثل التأثير الثقافي بوجود التنظيم الذي يحتوي الانشطة الثقافية المتعددة، ويوجه مساراتها بصورة صحيحة، لكي يجعل من اكثر تركيزا وقوة وتأثيرا، هذا التناغم الثقافي العام، اذا ما كان يسير وينشط ويتحرك وفق استراتيجية ثقافية ممنهجة ومبرمجة ومخطط لها مسبقا، فإن النتائج ستكون على قدر كبير من النجاح والتأثير، خلافا لما ينتج عن الفعل الثقافي العشوائي، فالأخير لا يمكن أن يصب في الاتجاه الصحيح، ولا ينتج عنه سوى ضياع الجهود الثقافية، وبعثرتها هنا وهناك، من دون فائدة تذكر.
إن الدول التي تعاملت مع الثقافة باحترام استطاعت ان تقطف ثمار هذا التعامل الجيد مع شؤون الثقافة، لذا لا شك أن نفهم الاستراتيجية الثقافية، ونؤمن بأنها تنظم العمل الثقافي، وتساعد على تحقيق الاهداف المخطط لها، إذ يتقدمها رفع مستوى الثقافي والوعي لدى الفرد والمجتمع على حد سواء، ولا يأتي هذا من دون السعي الحثيث والتخطيط السليم لتحيق هذا الهدف، أما العشوائية الثقافية، فهي غير منتجة بطبيعة الحال، لأنها لا تقوم على اسس واضحة ورصينة، ولا تستهدف رفع المستوى الثقافي للفرد او الجماعة، بل في الغالب تكون النشاطات الارتجالية خاضعة للمزاج الشخصي، وغير مدروسة، ولا تقود الى نتائج ملموسة، من هنا على المسؤولين والمعنيين تجنب الارتجال والعمل على التخطيط الثقافي المسبق بصورة مستمرة.
وحتما يعرف أصحاب الشأن، كيف يجعلون من الأنشطة الثقافية ذات تأثير كبير في حياة المجتمع، ومن المهم أن يفهم الجميع النتائج السلبية لعدم الاهتمام بالوعي، والحرص على تطوير الثقافة، كونها لا تستند أصلا الى قاعدة او منظومة ثقافية واضحة المعالم، بطبيعة الحال لا نعني بالتخطيط والبرمجة واخضاع الفعل الثقافي الى ستراتيجية واضحة، أننا نهدف الى تركيز الفعل الثقافي في بؤرة محددة، إنما الهدف هو تنظيم الانشطة الثقافية والفنية المختلفة، و وضعها ضمن سياقات متناغمة، بعضها يسند البعض الاخر، فتظهر وكأنها تنطلق بصورة منتظمة لا تقبل الارتجال ولا العشوائية في العمل الثقافي او الفني، وهذه هي النتيجة الطبيعية لرسم الخطوط الصحيحة للحراك الثقافي الكلي.
مشاريع ثقافية ناقصة
وقد تابع المعنيون والخبراء بالثقافة العراقية عدة مشاريع ثقافية في العاصمة بغداد، وفي سواها من المحافظات، وتم صرف مبالغ مالية كبيرة جدا على هذه الفعاليات، ولكن لم تأت هذه المشاريع، ضمن الاستراتيجية الثقافية التي طالبنا بها وأشرنا لها في هذا المقال وسواه، مما سبق كتابته ونشره في حينه، اذا تم طرح رؤى كثيرة في هذا الصدد ولم يؤخذ بها من لدن الجهات المعنية، لذلك طالت بعض المشاريع الثقافية شبهات فساد، وصفقات مشبوهة لا يسع المجال هنا للتفصيل او الخوض بها، وكان واضحا أن هذه المشاريع تميل الى الشكلية اكثر من الجوهر.
لذلك لم تكن هذه المشاريع كما يجب، ولم تعطي الثمار المتوقعة منها، فقد شابتها بعض الشوائب وحدثت فيها بعض الاخطاء بسبب العشوائية والمزاجية وحالة الارتجال التي تقع الثقافة الآن تحت سطوتها، إذ هناك نزعات فردية مريضة تحاول أن تستأثر بالفعل الثقافي، وتحاول ان تتصدر المشهد الثقافي والفني من دون وجه حق، او من دون خبرة وتخصص، لكنها تبقى نزعات فردية لصناعة مجد شخصي لا يمت للحقيقة بصلة، في حين نحن كعراقيين في أحوج ما يكون للثقافة الجماعية المؤثرة والفاعلة، ولا نحتاج الى اللهاث وراء صناعة المجد الشخصي الذي لا يخدم العراقيين، دولة او مجتمعا، حاضرا أو مستقبلا.
في الخلاصة، يستدعي هذا الموضوع متابعة جادة للنشاط الثقافي في عموم البلاد، فكل هذا وسواه من الأفعال والاعمال والخطوات الخاطئة، ادى الى غياب التأثير الواضح للثقافة في رفع مستوى الوعي والفكر لدى المجتمع بصورة عامة، لذلك ثقافتنا تحتاج الى تنظيم الفعل الثقافي المتنوع وضبطه وفق ايقاع ستراتيجي مؤثر يجعل من الثقافة ذات حضور قوي وكبير ومنتج في حياة الجميع، وهذه هي مهمة الخبراء والمعنيين بوضع الخطط المسبقة طويلة المدى.
اضف تعليق