يتصور البعض أن من الصعب فصل حادث إعدام الشهيد الشيخ نمر النمر في السعودية، عن الاجواء السياسية المشحونة في المنطقة، علماً أن الحدث جزءاً منها، بيد أن ثمة فرق كبير بين من يصنع الحدث السياسي وبين من يكون نتاجاً للحدث والمتغيرات السياسية. فالذي ينطلق من قيم انسانية نحو اهداف سامية ما وراء الأطر الضيقة والمصالح الخاصة، يخلق تموجات هائلة تفوق حدود السياسة مهما كانت حاكمة.
وعندما تتعرض هذه القيم التي يؤمن بها، ليس فقط الشيعة او المسلمون، وإنما شعوب العالم أجمع، الى الانتهاك الصارخ الى حد التصفية الجسدية كما أقدمت عليه السلطات السعودية بحق الشهيد الشيخ النمر، فأنها تتحول الى قضية عالمية يتبناها الجميع ويدافع عنها.
ومن أجل ذلك؛ وجدنا القوى الكبرى تستفيد من هذه القيم لإضفاء المشروعية على ما تقوم به أعمال تغيّر بها مصائر الشعوب، كما فعلت ذلك الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. فهي تبدأ بالسياسة وتغيير الوجوه بحجة "مخاطر الديكتاتورية" على المنطقة والعالم، لكنها تنتهي الى أهداف ذات صبغة انسانية مثل؛ الحرية والحق في تقرير المصير والحقوق لكل فئات المجتمع من طفل وامرأة وأقليات دينية وغيرهم، لتكون الواجهة الشرعية لأهداف أخرى ربما تتعارض يوماً ما هذه القيم الانسانية.
بيد أن الشهيد النمر في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ المنطقة، اختصر المسافات ليظهر أمام شعبه أولاً، ثم أمام العالم أجمع بأن بدايات مشروعه وأدواته وأساليبه تتصل بالغايات القصوى التي تعبر عن المنظومة الحضارية المتكاملة التي حملها في فكره وثقافته، فهو خط ممتد واحد، وقد أفصح عنها لمرات عدّة في خطاباته الجماهيرية، سواءً من على منبر صلاة الجمعة او في مناسبات اخرى. فقد خرج من دائرة الذات منطلقاً في رحاب الجماهير وحقوقها الضائعة، وهي ليست سوى الحقوق التي يطالب بها كل انسان بالعالم، من حرية الرأي والعقيدة، والمشاركة السياسية والتوزيع العادل لفرص الحياة الكريمة، ليس فقط لابناء طائفته في شرق السعودية وإنما لجميع الشعوب التي تعيش في ظل ديكتاتوريات وأنظمة قمعية فاشلة.
وهذا من شأنه ان يساعد في الاجابة على تساؤلات البعض عن السبب في هذا الاجماع العالمي المنقطع النظير على نصرته والتضامن مع قضيته، وشجب القرار السعودي بارتكاب هذه الجريمة. فمواقف التضامن لم تصدر من شخصيات وكيانات شيعية فقط، وإنما من شخصيات سنيّة ايضاً، بل وحتى كسب تضامن شخصيات مسيحية، حتى حدى بقسيس اميركي أن يقول مؤخراً: "من يريد أن ينظر الى مارتن لوثر كنغ، والى غاندي والى المسيح، لينظر الى وجه الشيخ النمر".
ان الخصال الانسانية الرائعة في الشهيد النمر هي التي دفعت هذا القسيس، وشخصيات عالمية اخرى لأن يندفعوا متضامنين معه ومع قضيته، فهو في نظر هذا القسيس قد جمع بين حقوق الانسان التي دعا اليها كنغ، والتحرر من العبودية التي دعا اليها غاندي، وكل القيم الدينية والاخلاقية التي جسدها النبي عيسى، عليه السلام. كما شهدت بلاد مختلفة من العالم وقفات تضامن ومسيرات احتجاج ومجالس تأبين وغيرها من ردود الفعل على صعيد وسائل الاعلام ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والعلمية، كلها أعلنت عن تضامنها مع قضية هذا الشيخ الشهيد ومع قضيته العادلة.
وكما إن حركات جماهيرية كبيرة شهدها العالم في القرن الماضي، ما تزال أصداءها قائمة، يضرب بها المثل، فان انطلاقة الشهيد النمر، ستكون إضاءة جديدة وبارزة في طريق المطالبين بالحقوق المشروعة وكلمة الحق أمام سلطان جائر، وسيبقى الضوء مشعّاً، ولن يخبو حتى وإن انقلبت الاوضاع في السعودية، وانهار النظام السياسي في هذا البلد، بل وتغيّر اسم البلد بزوال القبيلة الحاكمة من قمة السلطة، فان الشهيد النمر يبقى ظاهرة شاخصة بين اوساط شعبه وسائر الشعوب، وشعاراً لكل المطالبات الحقّة والعادلة أمام أي نظام حكم قادم. فقد جسّد الانسانية بأروع صورها، عندما استهجن القانون الذي يحظر تأسيس الجمعيات العارضة "إلا بإذن رسمي"، فقد أعلن للعالم بأنه ينتمي الى "مدرسة رسالية لا يحتاج ابناؤها الى ترخيص وإذن من الحكومة للتعبير عن رأيهم وعقيدتهم".
إن الشهيد الشيخ نمر النمر، مضى الى ربه راضياً مرضياً، وخلف ورائه دروساً بليغة في التغيير والبناء للفرد والمجتمع والامة، وقال كلمته القاطعة بأن العيش الكريم لن يتحقق إلا عندما يحقق الانسان انسانيته بكل شجاعة وإصرار، ولا يهاب التحديات التي يصطنعها الحكام واصحاب المصالح الخاصة.
اضف تعليق