هناك من يرى أن معظم العراقيين يخافون المستقبل، ويعتمد أصحاب هذا الرأي من المختصين بعلم الاجتماع وعلم النفس، أن تكالب العراقيين على المنافع المادية بتكالب وتهافت غير مسبوق، وضربهم لمعظم الضوابط والشروط التي تحمي حقوق غيرهم، هو الدليل على أنهم يحاولون جمع ما يقدرون عليه من الأموال والمكاسب المادية بشتى السبل والطرق المتاحة بغض النظر عن كونها مشروعة أو لا مشروعة، والعذر الذي يتردد على ألسنة الناس المسؤولين منهم والبسطاء، لكي يدّخروها لأيام وشهور وسنوات قادمة، تطبيقا للمثل الشعبي المعروف (القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود)!.
واذا كان من حق الانسان أن يحرص على أمواله وممتلكاته، ومن حقه تيضا مضاعفة موارده، فإن هذا الحق ينبغي أن يتوافق مع القيم والأعراق والدين، فضلا عن القانون الذي ينظم الحقوق ويحميها بصورة متساوية، ولكن يقول أهل التخصص أن نزعة التكالب على الأموال، أخذت تتضاعف وتتلبس الشخصية العراقية منذ عقد من السنوات تقريبا، وهناك ركض واضح للجميع نحو جمع المال والحصول على المكاسب، بطرق أقل ما يُقال عنها أنها غير منضبطة ومنافية للأخلاق والدين والقانون.
ولذلك لا يزال العراقيون او نسبة واضحة منهم، بسبب خوفهم من المستقبل، يتهافتون حد الصراع على (المناصب، والتعيينات، والسرقات، والاختلاسات، والصفقات المشبوهة) التي تقود بعضهم الى الاستحواذ على كميات هائلة من الأموال من دون وجه حق، كونها تعود الى عموم الشعب العراقي لأنها ببساطة تنتمي الى (المال العام) المحرّم على من يتجاوز عليه من دون مسوّغ قانوني أو رسمي دقيق وعادل يسمح له بذلك.
السؤال الأهم، من يقف وراء خوف العراقيين من المستقبل؟، هل هم أشخاص أم دول أم قوى خفية؟، ويمكن أن نضع نيسان 2003 كنقطة شروع لانطلاق ظاهرة الاستحواذ بصورة مثيرة للاستغراب، بالتزامن مع أجواء الانفتاح التي حدثت بعد التأريخ المذكور، وتوسعت فجأة على نحو غير مسبوق، لكننا نتفق على ان الاستحواذ المعتدل غريزة طبيعية تدخل في تركيبة الانسان، ولا غضاضة فيها عندما تتميز بالاعتدال، أما الذي نتحدث عنه هنا، هو ذلك اللهاث الجماعي نحو تحقيق المكاسب المادية بشتى الطرق، حتى لو كانت مخالفة للقانون الوضعي أو النواميس أو حتى الأحكام الدينية.
اهتمام علماء الاجتماع
لا شك أن علماء الاجتماع والمعنيون بهذه الظاهرة مهتمون بها، وهم يؤيدون أيضا انتشار هذه الظاهرة بصورة واضحة بين أطياف واسعة من العراقيين، لاسيما طبقة المسؤولين والموظفين من أصحاب الدرجات الخاصة، حيث تتاح لهم فرص للتجاوز على المال العام اكثر من الموظفين الصغار، وأكثر من شريحة الكسبة، او العمالة خارج اطار الدولة والحكومة.
إن الأسباب التي تدفع بالعراقيين نحو الاستحواذ، ليس النزعة او التركيبة النفسية لهم فحسب، وإنما ينبغي أن ندرس الظروف التي مرّ بها العراقيون، وحالات الحرمان والجشع الحكومي الذي تعرضوا له، فضلا عن العقود المتوالية من الكبت والتكميم والحرمان من ابسط الحقوق، وكل هذا يحدث في بلد يحسده العالم أجمع على ثرواته الطبيعية وخيراته، ومع ذلك عاش شعبه تحت خط الفقر، ولا تزال هذه النسبة عالية حسب تصريحات وزارة التخطيط اذا بلغت العام الجاري نسبة الفقر 23% من نفوس الشعب العراقي.
نعم لا يمكن أن تكون مثل هذه الأسباب مبررا لانتشار ظاهرة الاختلاس وسرقة المال العام، ولكن يحتاج الأمر للوعي والثقافة من أجل محاربة هذه الظاهرة، ولكننا نقف ازاء شعب باتت نسب كبيرة منه غير متعلمة وتعاني الجهل، فكيف نطالبها باحترام حقوق غيرها، خصوصها أنها لا تزال تحت وطأة رعب الماضي المدجج بالظلم والحرمان؟، كيف نطالب ناس أن لا يخافوا المستقبل، وهم جربوا الجوع والانتهاك بأنواعه، ولطالما تضوروا ألما فضلا عن الجهل.
لذلك قد لا يغالي بعض العلماء المعنيين عندما يؤكدون على أن تلك الحقب السوداء من تاريخ العراقيين، هي التي تقف وراع ضياع الحقوق وانتهاكها، وهي نفسها التي تقف وراء حالة الخوف والقلق التي يعيشها العراقي في حياته اليومية ونظرته الى المستقبل، ويؤشر المعنيون ظاهرة أخطر من خوف المستقبل حيث قادت العراقيين الى ظاهرة تعددت الولاءات، وصار الاحتماء بالهوية الأصغر، بديلا عن الانتماء الى الهوية الأكبر.
المعاناة من قلق الحاضر
يرى العلماء والمتابعون المعنيون أن ظاهرة تشتت الولاء، تعني أن الانتماء القبلي أو العائلي او الفئوي أقرب الى الفرد العراقي من الانتماء الى الهوية الأهم والأكبر، ولهذا تأسست وانبثقت كيانات وتجمعات صغيرة وكثيرة، تولّدت وازدهرت وتوزعت على امتداد العراق، ويؤكد ذلك ظهور عشرات التجمعات المجتمعية والسياسية، فضلا عن الأقليات المختلفة التي أعلنت تشكيلها، وتأسيسها تحت غطاء قبلي، عشائري، أو ديني، حتى صار الفرد العراقي يجد فيها ملاذا يحتمي به، بدلا من الاحتماء بخيمة الوطن.
وريما لا يقبل بعضهم بما ورد في هذا الرأي، ويرون أنه مبالغ به، وقد يرونه معمَّدا بالمبالغة وتضخيم الواقع، ولكن يمكننا أن نتأكد من صحة هذا الكلام حين نوجّه السؤال التالي للفرد العراقي.. هل أنت قلق على حاضرك ومستقبلك، وهل تخشى المستقبل فعلا؟ ثم لماذا هذا الهلع والركض وراء تحصيل المال؟ وعند الاجابة بصدق وأمانة ووضوح، سنلاحظ أن الدافع الاول لحالة الاستحواذ وانتشارها، هي الخوف من المستقبل، أما الاسباب فهي لا تغيب عن المراقب المتخصص والدقيق.
فقد كان المجتمع العراقي ولا يزال ضحية منظومة سياسية شرهة، تفتقر للشخصية والعقلية النموذجية، إذ لم يظهر بين العراقيين العقل المدبّر والشخصية المحورية التي تشبه الشخصيات النموذجية الجامعة للناس بدلا من تفريقهم، كما فعل نلسن مانديلا لشعبه على سبيل المثال، نعم نحن نحتاج الى مانديلا عراقي ونريده نموذجا حيّا يعيش بيننا، لكن لم يحدث ذلك مع حاجتنا القصوى له، حتى بعد أن فُسِحَ المجال واسعا بإطاحة الدكتاتورية للسياسيين المناضلين الذي أمضوا عشرات السنين في المنافي أو سواها.
لكن عندما حانت فرصتهم لمسك دفة السلطة، حدث العكس تماما، حيث الصراع على السلطة والمناصب والمنافع الفردية والحزبية والجماعية وصل أوجه، لدرجة أننا بتنا نخشى على مستقبل الدولة التي نحلم بها، دولة المؤسسات، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون.
لذا بقيَ المواطن العراقي يعاني عقودا متواصلة من البطش وسحق الهوية الفردية وحتى الوطنية، وقد وجد في أجواء الانفتاح مبررا نفسيا كي ينخرط في الصراع المادي، فدفعه ذلك الى تحصيل المال - ظنا منه انه يحمي مستقبله- بطرق معظمها لا مشروعة تعتمد الاحتيال والمراوغة والتبرير وما الى ذلك من أعذار، تبرر التجاوز على المال العام، والتجاوز على حقوق الآخرين، لتصبح ظاهرة سلوك مجتمعي مبرَّر وهنا تكمن الطامة الكبرى.
وهكذا حين يعجز النظام السياسي الراهن عن طرح النموذج المناسب، فإن ظاهرة انتهاك المال العام سوف تنتشر بصورة أوسع، يرافقها تعدد الولاءات الصغرى، مع عد تنازلي للولاء الوطني الأكبر، ينتج عن ذلك خوف من الحاضر والمستقبل، يتلبس الفكر والحركة الفردية والجماعية المجزَّأة أصلا، لذلك نحتاج الى قيادة سياسية دينية ثقافية، تطمئن العراقيين على مستقبلهم، عبر خطوات مدروسة ينبغي أن ينظر لها المعنيون بعين وضمير غير قابل للتأجيل.
اضف تعليق