q

إنه تميّز آخر لمدينة كربلاء المقدسة عن سائر المدن في العالم التي تشهد توافد جموع الزائرين، فهي تستقبل خلال العام الواحد عشرات الملايين في مواسم زيارة الامام الحسين، عليه السلام. من الذين لا يجدون أمامهم لوحة فنية جميلة تسرّ الناظرين، كما هو الحال في المدن ذات المعالم الأثرية والتاريخية القديمة، إنما يجدون أنفسهم جزءاً من هذه المدينة، وهذا ما ألمسه بوضوح من مشاعر فياضة من جموع الزائرين من كل مكان بالعالم، وهم يتحركون بكل حرية وثقة، ويتعاطون مع أهالي المدينة ويتعاملون مع الاجراءات الرسمية بكل سلاسة، كما لو أن هذه المدينة خلال زيارة الاربعين – مثلاً- تضم (10) او (20) مليون انسان، وليس مليون نسمة فقط...! وهذا من شأنه أن يفسح المجال واسعاً للمشاركة في مشاريع الإعمار وإعادة بناء هذه المدينة لتكون بالشكل الذي يتناسب مع مكانتها الدينية والحضارية.

لا أجدني بحاجة الى اجترار السلبيات في الوضع العام لكربلاء المقدسة، من الناحية العمرانية والإدارية والخدماتية، والذي طالما أثار استغراب الزائرين طيلة السنوات الماضية، إنما المفيد – باعتقادي – إقفال الحديث عن الاعتماد على الدور الحكومي في هذا المجال وانتظار البرامج والتخطيط والعمل من دوائر الدولة العراقية، لأن الوقائع على الارض تؤكد أن زيارة مليونية بحجم الزيارة الاربعينية تفوق إمكانية دولة وحكومة، لاسيما اذا كانت مثل الحكومة العراقية في وضعها الحالي، الامر الذي يستدعي خطوات شجاعة من لدن الشريحة المقتدرة مالياً والتي تكون بين الزائرين كل عام، باتجاه الاستثمار في مشاريع الاعمار والبناء.

البداية من البنية التحتية

يتصور البعض أن مشكلة الزائرين في كربلاء المقدسة، في الزيارات المليونية، تُحل بإجراءات سريعة او آنية، مثل جمع النفايات في غضون اوقات قياسية، او توفير الطعام والشراب لأكبر عدد من الزائرين او توفير الحافلات لاستقبال الزائرين ثم إعادتهم من حيث أتوا وغير ذلك، لان هذا يعد حلا ترقيعياً يغطي المشاكل الاساس في المدينة، ويلبي المطالب الآنية للزائرين، سواءً خلال زيارة الاربعين او في زيارة الخامس عشر من شعبان وغيرها. في حين إن الرؤية العلمية و الاستراتيجية تبحث في الحلول الجذرية.

مثال ذلك؛ النقل، فالمدينة بحاجة لاكثر من مرآب للطرق الخارجية وايضاً للطرق الداخلية، كما هو معمول به في معظم دول العالم. هذا المشروع الحيوي يلغي بالكامل مشكلة النقل داخل وخارج المدينة، ليس في وقت الزيارة وحسب، وإنما في جميع ايام السنة، ويضفي على المدينة حالة من الانسيابية في الحركة والنقل، للافراد والبضائع، وهذا – بدوره- يمكن أن يسهم في تطوير الحركة الاقتصادية في المدينة وفي عموم البلاد.

كذلك الحال بالنسبة للنفايات التي يرى فيها البعض مشكلة وأزمة مستديمة خلال الزيارات المليونية، ويجب أن تكون أمام أنظار الزائرين، بينما هي تمثل فرصة استثمارية رائعة ربما يتحسّر عليها أهل الخبرة في هذا المجال بالعالم، حيث الاكداس الهائلة من النفايات قابلة للفرز والتدوير والتحوّل الى مواد صناعية جديدة، وطالما تردنا أرقام كبيرة وهائلة بمئات الاطنان من النفايات التي تجمع وتنقل خارج كربلاء خلال الزيارات المليونية، دون أن يُعرف مصيرها او ما تخلفه على البيئة في المدى المنظور والبعيد. فاذا كانت ثمة فوائد استثمارية تعود على اصحاب الرساميل في هذا المجال، فان هنالك فوائد جمّة تعود على البيئة في كربلاء والعراق، عندما تتخلص التربة من طمر مئات الاطنان من النفايات، وهي تحتوي على مواد البلاستيك والزجاج والورق والمواد العضوية وغيرها.

المبادرات من الجماهير حصراً

والسبب في ذلك، أن مشاريع في مدينة مثل كربلاء المقدسة، وتصدر عن جهات حكومية، ربما تكون عرضةً للتوظيف السياسي، فضلاً عن انزلاق المشاريع المرجوة في دهاليز المحاصصة والمصالح الشخصية والفئوية.

بينما نجد هذا النوع من الاستثمار، يقوي اللحمة بين الموالين لأهل البيت، عليهم السلام، من مختلف بقاع العالم. ويعزز الهمّ المشترك والرؤية الواحدة لتطوير و اعمار المدينة، وربما تكون هنالك استثمارات مشتركة بين أهل الداخل وأهل الخارج لما يرونه ذو أولوية وحاجة ملحّة، مثل النقل او الطاقة او الطرق وغيرها.

ولا ننسى إن هكذا مبادرات لاعمار كربلاء المقدسة، ستخرج من ضيق الانتماء القومي والعرقي، وان هذه الاموال من الشرق او من الغرب...! وتطلقها في رحاب الانتماء الى المدرسة الحسينية العالمية. فمن يقرر الاستثمار في هذه المدينة وحتى غيرها في العراق، التي يؤمها الزائرون ايضاً، فانه - بالحقيقة- يعزز انتمائه الى هذه المدرسة، كما يفعل الزائرون القادمون من بقاع مختلفة في زيارة الاربعين، فهم يرفعون أعلام البلاد التي جاؤوا منها، وإن كانت غير اسلامية، بيد أنهم – والحال هكذا- يطلقون رسالة الولاء والاندماج والخدمة للامام الحسين، ولأهل البيت، عليهم السلام، ويكفي هذا دافعاً قوياً نحو مشاريع اقتصادية وتنموية في العراق في ظل أجواء استثنائية لم يشهدها البلد ولا المدن المقدسة طيلة قرون من الزمن.

اضف تعليق