لغة العنف والقوة تنتشر في المجتمع، كلما تراجع دور القانون وتخلخلت قبضة الدولة ومؤسساتها، فيكون الخيار لاتباع اسلوب يحقق المطلب، او ربما يرد المظلمة ويستعيد الحق. وهذه ظاهرة وحالة لا علاقة لها بمجتمع دون آخر، او أمة دون اخرى، فهي مسألة تكاد تكون غريزية. وفي التاريخ ثمة نماذج على وجود جماعات منظمة تمتهن القتال، أشبه ما تكون بالمليشيات تحارب الملوك والاقطاعيين تلبية لنداء المحرومين والمظلومين، وهؤلاء يكونوا بمنزلة طوق النجاة وفرسان الأحلام لانقاذ الناس من الظلم والتعسف.
لغة القوة إلى أين؟
حتى الانسان المتأبّط سيفه أو مسدسه، والمتدثر بحذره، فانه يرنو ساعة ما، الى الراحة والاستقرار، وربما يتمنى حصول تطور جديد ينقله الى مرحلة أخرى تجعل منه انساناً ذا شأن بالاستفادة من خلفيته الاجتماعية المتعالية ورصيده بين الناس، لا أن يستمر يطارد هذا وذاك، ثم يتعرض للمطاردة هو ايضاً، وعلى حين غفلة يُردى صريعاً ويرحل عن قافلة ويغيب عن الحياة غير مأسوف عليه.
لذا نلاحظ في جميع التحولات العالمية المعاصرة، فقرة في البناء الاجتماعي، تتعلق بهذه الشريحة وتفرد لها مساحة خاصة تشارك من خلالها في عملية التغيير بما يقدّر لها مواقفها ويحفظ لها وجودها، بل ويستفيد من امكانياتها. مثال ذلك؛ الشريحة الاجتماعية في بلاد القوقاز المعروفين بالشدّة والعنف المعروفين بـ "القزاق"، هؤلاء كانوا عبارة عن فرق قتالية خيّالة، اعتمد عليهم الزعيم السوفيتي في زمانه "جوزيف ستالين" لتثبيت اركان حكمه في مناطق جنوب الاتحاد السوفيتي السابق، فيما ذهب البريطانيون أبعد من ذلك في الاستفادة، بأن استخلصوا منهم شخصية قيادية مؤهلة لأن تأخذ بزمام الامور في بلد ضخم وعريق واستراتيجي هو؛ ايران، في مطلع القرن العشرين، ألا وهو "رضا خان"، الذي تحوّل من قائد للخيالة القزّاق، الى ملك يعد نفسه امتداداً للسلالة الملكية ذات الألفين عام في ايران.
وهكذا فان البريطانيين (المستعمرين) استفادوا بالحد الأقصى من "القزاق" لما يحقق مصالحهم لا مصالح ايران والشعب الايراني. لكن عندما نراجع تجربة اخرى في ايران نفسها، وبعد عقود من الزمن، حيث نضجت تجارب التغيير والبناء الاجتماعي والسياسي، نرى أن الشريحة التي تسمى في العراق "الاشقياء" وفي ايران بـ "اللات"، كانت ضمن القوى الثورية المساهمة في إسقاط نفس ذلك النظام الملكي المصطنع بريطانياً عام 1979، وفي المرحلة اللاحقة انضموا الى المؤسسات الاجتماعية والثورية لخدمة النظام الجديد.
هنا نتسائل؛ هل حصل في دولة ما، أن أشرك "الأشقياء" أو "البلطجية" كما يسمونهم في مصر، في عملية التخطيط والتشريع والحكم وغيرها من مرافق الدولة الأساس؟
الولايات المتحدة الامريكية، المكونة من خمسين ولاية، توجد في معظمها ثقافة العنف والقسوة، حتى طبع الانسان الاميركي في بعض الادبيات بأنه "كابوي"، لانه تدرّج من قمع الهنود الحمر، الى استعباد واضطهاد السود، ثم ممارسة رعي البقر وتربية الخيول في السهول والمزارع الشاسعة في اميركا، وهؤلاء، لا نجدهم في مراكز الدراسات والابحاث وفي مراكز القيادة والتشريع، نعم؛ انهم موجودون – على الأغلب- في قوى الشرطة والأمن كما موجودون في القوات المسلحة.
ونحن في العراق، كما في سائر البلاد لدينا هذه الشريحة التي تحولت الى أشبه بالحالة الاجتماعية ومن سمات بعض أفراد المجتمع العراقي، فانهم وجدوا انفسهم بين ليلة وضحاها أمام تغيير تاريخي كبير، يطيح بنظام لم يتصور أحد سقوطه بهذه السرعة، والأغرب منه، افتتاح الطريق السريع أمامهم، مع جملة من الشرائح الاخرى، نحو مراكز الحكم ومؤسسات الدولة، مثل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.
المشكلة ليست في وجود هؤلاء في هذه مواقع المسؤولية، لأن الجميع مدعوون لأن يسهموا في عملية البناء الجديد للدولة، لاسيما وأن الذي بين أيدينا نظاماً يختلف كليةً عن النظام السابق، بيد أن المسألة في الاستفادة من الطاقات والامكانات الموجودة، فقد تصور البعض من الذين يشاركون في قيادة العملية السياسية بالعراق، أن بدلة أنيقة مع ربطة عنق، وشيء من اللباقة في الحديث واختيار الكلمات الكبيرة والعبارات المدبّجة تكفي لأن يتحول إنسان مطبوع بالعنف والقسوة، الى نائب في البرلمان ويشارك في التشريع والتقنين، او ان يكون مديراً في دائرة حكومية ذات صلة بالمجتمع، او حتى يكون وزيراً...! لكن لا يلبث هذا "المسؤول" وفي لحظة خاطفة يفقد السيطرة على مكنوناته ونزعاته النفسية المتجذرة، فينفجر بوجه هذا بالتهديد والوعيد، او بوجه ذاك باطلاق الرصاص! علماً أننا نسمع دعوات عديدة وعالية في المجتمع العراقي بضرورة وجود القبضة الحديدية لتحكيم القانون وإنصاف المظلوم واستتباب الأمن والاستقرار بما يخدم الجميع، لكن لا من مجيب، لتبقى الحالة كما هي عليه في القرون الأولى، حيث "الحق مع القوي".
الشباب العراقي يسخّر قوته العضلية ضد "داعش"
إن ما سمعه العراقيون من حادثة إطلاق الرصاص خلال شجار لفظي بين اثنين من المسؤولين العراقيين، ربما يكون فقرة أخيرة من فقرات مسلسل طويل لم يشهده أحد بفعل التعتيم الاعلامي، بيد أن هذه المرة كانت الواقعة في داخل قناة فضائية، فلا مناص من إشاعة الخبر وانتشاره. وربما الخافي أعظم...! وهذه بالحقيقة يمثل صدمة عنيفة للنموذج الذي اعتقد العراقيون أنهم يعيشونه بعد نموذج الحكم الصدامي – البعثي، القائم على العنف والقسوة في كل شيء، حتى في طرح الفكر وصناعة الثقافة. فهم توقعوا تحكيم الاخلاق والآداب والقيم الدينية، لانهم بفضل هذه الثوابت والالتزامات يستجيبون لنداء الساسة ويشاركون في الانتخابات ليصعد هذا وذاك الى مجلس النواب او مجلس الوزراء. كما يستجيبون لنداء المرجعية الدينية بالجهاد، فيشاركون في الدفاع عن الارض والعرض والهوية، ويسترخصون دمائهم ويتخلّون عن راحتهم ومستقبلهم وعوائلهم. وهم في ذلك في كامل صحتهم وحيويتهم، فالذين يستبسلون ويسطرون الملاحم في جبهات القتال مع "داعش"، يمثلون عينة المجتمع من شباب أقوياء وأشداء بامكانهم أن يستثمروا قدراتهم لما يحقق مصالحهم الخاصة. بيد أنهم وظفوا طاقتهم وشبابهم ليعيش الآخرين بسلام، ومنهم طبعاً أولئك "البعض" من الساسة الذين حملوا عنفوانهم و"شقواتهم" الى مكاتب البرلمان او الحكومة، ظناً منهم أنها وسيلة لابد احياناً وتفيد في السجالات الكلامية وتقوية الموقف أمام الخصوم والمنافسين.
إن استخدام القوة العضلية وحتى اللفظية في بلد مثل العراق، يمثل منتهى الاستهتار بمشاعر الناس وتاريخهم وواقعهم المرير، نعم؛ ربما نشهد هكذا نزاعات وعراك في بعض البرلمانات او الحكومات، لكن هل يجب ان يتعلم منها اللبيب والفهيم؟! في عراق اليوم، هنالك شباب في قمة الفتوة والقوة العضلية والقدرات الذهنية الوقادة، لكنه يفضّل توظيف هذه القدرات لمحاربة قدرات خارجة عن العقال تديرها أدمغة جاهلية متحجرة تخلق منها قوى للتكفير والتدمير والقتل بأبشع الاشكال. بمعنى أن أبطال الحشد الشعبي في العراق يضحون بكل شيء لتوفير الامن والاستقرار لبلدهم ولشعبهم، وحتى يكون القانون والقيم والمبادئ هي الحاكمة وليست القيم الجاهلية. ومنها نستشف الرسالة البليغة التي لم يقرأها "البعض" فحنّ الى الماضي وخرج عن السيطرة، وربما يخرج آخرين مثله في المستقبل وأمام الناس، لذا نأمل أن تصل الرسالة ويلتزم بها جميع المسؤولون في الدولة بأنهم يدعون لمحاربة "داعش" الارهابية – الدموية، بهدف إنشاء مجتمع ودولة تسودها ثقافة التعايش والاحترام المتبادل ليكون الجميع بخير علّ الشعب العراقي يتنفس الصعداء.
اضف تعليق