عندما يكون الانسان بلا عاطفة، فإنه لا يفهم معاني الكثير من المشاعر الانسانية، فهو مثلا لا يفهم ما هو الخشوع، وربما يسمع بمفردة الرأفة ولم يجربها في حياته، لذلك الانسان عندما تجف عاطفته، قد يكون شبيها بالروبوت الآلي الذي يتم تصنيعه في اليابان او امريكا أو غيرها، حيث يقول الخبراء المصنعون أنهم يصنّعون كائنان ذكية تشبه الانسان ولكنها بلا مشاعر، لذا يمكن أن نشبّه الانسان الفعلي الخالي من العاطفة بالروبوت.
وهذا يعني أن الانسان ينبغي أن يوازن بين المادي والعاطفي، ويحتفظ بالثنائية وقانون التضاد بين الاشياء، حتى تكون حياته كلها متوازنة، فمثلا عندما يكون الانسان ماديا، قد يحقق نجاحات كبيرة على مستوى الثراء وما شابه، لكنه لن يكون سعيدا لأنه لا يهتم بعاطفته ولا يعبأ بمشاعره، وربما لا يعرف البكاء طوال حياته، فتكون حياته كلها مكرّسة للمادة فقط، فيخسر الجانب العاطفي، ويصبح كمن يرى الحياة بعين واحدة.
لذلك ينصح علماء النفس الاشخاص الاذكياء والاقل ذكاءً بعدم التفريط بالعاطفة، وكثير منهم يؤكدون على مزايا الخشوع والتفاعل الانساني الحميم والبكاء، ويؤكدون أيضا أن الانسان الذي يوازن بين العاطفي والمادي يكون اكثر سعادة واستقرار ونجاح من الانسان الذي يفتقد أحد الجانبين، وكلاهما يفشل في تحقيق التوازن، ولا يمكن أن يكون هناك مفكر بلا عاطفة، إلا اذا كان فكره مقتصرا على الأفكار المادية البحتة.
ما نريد أن نصل إليه، أهمية المزاوجة بين المادة والعاطفة، ومن ثمة تطوير المسار الثقافي للمجتمع على اساس التوازن العاطفي الفكري والمادي، من هنا ينبغي أن يكون لدى القائمين على المؤسسات الثقافية والمنظمات والاتحادات والمنتديات رؤية وتصور واضح عن أهمية الربط بين العاطفي والمادي، وانطلاقا من هذه الرؤية يمكن للمعنيين بالثقافة في العراق والبلدان الاسلامية والمسلمين في كل مكان، أن يستفيدوا من زيارة الاربعين لتحقيق الموازنة بين العاطفي والمادي.
بعض علماء النفس يؤكدون ان استعداد الانسان العاطفي للتثقيف والفهم وهضم التجارب النظرية والتطبيقية يكون أفضل من الانسان ذي التفكير المادي البحت، من هنا علينا أن ندرب الاشخاص على أهمية الموازنة بين مشاعرهم وأفكارهم المحصورة بالعلم والمادة وما شابه، وهذا جانب بالغ الأهمية، ولا ينبغي إهماله لأي سبب كان، ويمكن أن تكون زيارة اربعين الامام الحسين (ع) منطلقا لنا نحو تحقيق هذا الهدف الجوهري، على أن تكون هناك خطوات واضحة للمضي الحثيث والسليم في هذا الاتجاه.
الفكر الحسيني والتثقيف المنهجي
مثلما هو معروف للجميع، أن ملايين الزوار الكرام من عموم المسلمين، من مشارق الارض ومغاربها، من خارج العراق وداخله، تتدفق على مرقد سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، في زيارة الاربعين، لاداء مراسيم هذه الزيارة السنوية المليونية، ولإحياء مبادئ الامام الحسين، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، هذه الملايين تحمل في صدورها المشاعر الجياشة، والعواطف الصادقة والانسانية الراقية، وتحمل من الخشوع كنوزا لا تحصى ولا تُعدّ، فهي في الواقع وكما يلاحظها المتابع مدججة بالعواطف، ومن المناسب جدا أن تجد من يرعاها ثقافيا.
لذلك تكون زيارة الاربعين عاملا مساعدا لتثقيف الملايين من المسلمين، ويمكن أن تكون هذه المناسبة الدينية منطلقا للنهوض بملايين المسلمين أينما كانوا، عندما تتم المزاوجة بصورة مخطط لها من لدن المعنيين، بين اداء مراسيم الزيارة وبث الثقافة والوعي في عقول وادراك الملايين اللذين يتوافدون على كربلاء المقدسة.
ولا شك أن التنظيم والتخطيط ومن ثم التنفيذ الحاذق من لدن المعنيين، لتحقيق القفزة النوعية المطلوبة ثقافيا للمسلمين، يمكن أن تتحقق في هذه الزيارة المليونية، فهناك عوامل مساعدة كثيرة تصب في إنجاح الجهود المباركة التي تسعى لرفع المستوى الثقافي، ومستوى الوعي لجماهير المسلمين القادمين لمواساة أبي الاحرار (ع).
المقصود بالتثقيف المنهجي، هو عدم الارتجال، والتنظيم، والتركيز على الفكر الحسيني وما يفيض به من قدرات هائلة، معنوية وفكرية وانسانية وعاطفية، تدعم الفعل المادي للانسان، وتجعله منضبطا بإرادة ذاتيه، تحصّنه من الانحراف، لأن الانسان المثقف المؤمن بمبادئ الحسين (ع)، يكون قادرا على مواجهة مغريات الحياة، ولا ينحرف بسهولة، من هنا تتضاعف الدعوات لأهمية زيادة ثقافة المسلمين، ويتأتى التركيز على هذا الجانب من حاجة المسلمين الى النهوض مجددا والاصطفاف الى جانب الأمم المتطورة.
وهذا الهدق ليس مستحيلا، بل هو في متناول اليد، ولكن نحن كمسلمين ومن شيعة أمير المؤمنين (ع)، نحتاج الى الارادة اولا، والتخطيط، واستثمار الفرص الثقافية المتاحة لنا، للارتقاء بثقافة ووعي الانسان، وتشكل زيارة الاربعين فرصة راقية ومناسبة للشروع بالتثقيف المنهجي على الفكر الحسيني، حتى نضمن إنسانا حسينيا إنسانيا واعيا ومثقفا، ومن خلال هذه النماذج الواعية، تُبنى الامة من جديد، وتستعيد أمجادها، وتسترد مكانتها، ودورها التنويري الريادي، فتكون في الموقع الذي يؤهلها مجددا للعب الدور الانساني التثقيفي الحاسم.
بعض المقترحات العملية
إن الجموع الغفيرة القادمة الى أرض كربلاء المقدسة، لإحياء مراسيم زيارة الأربعين، تجمعها مبادئ الحسين (ع)، ويجمعها حب الحسين، لذلك هي مستعدة لاستقبال البرامج الثقافية التي تزاوج بين الثقافة العامة والوعي، وبين متطلبات الفكر الحسيني والالتزام به، فالثقافة الحسينية هي ثقافة انسانية في جوهرها، والقادمون الى كربلاء المقدسة في هذه الزيارة، كلهم حسينيون، لذلك من الأفضل أن يرتفع بهم المعنيون والقائمون على الثقافة الى المستوى الثقافي المطلوب.
كذلك ينبغي تحقيق المنهج التثقيفي بصورة منهجية وليست عشوائية، على ان تشترك في هذا الأمر جميع المؤسسات الثقافية، وكل من يهمه رفع المستوى الثقافي للمسلمين، بما يعزز مبادئ الفكر الحسني في نفوس جميع الزائرين، عن فهم ووعي وايمان، حتى يكون الانسان عاطفيا خاشعا وعالما ومثقفا في الوقت نفسه.
لذلك نضع هذه النقاط المقترحة أمام من يهمهم هذا الأمر، وذلك من اجل النهوض بالثقافة والوعي، وكي يسترد المسلمون دورهم بين أمم العالم أجمع، بالاستفادة من مناسبة زيارة الاربعين، ومن هذه المقترحات ما يلي:
- أن تشترك جميع المؤسسات والمنظمات الثقافية بوضع البرامج الثقافية عبر التخطيط والتنسيق المشترك.
- أن يتم التركيز على فحوى الفكر الحسيني الانساني الرافض للطغيان، والداعي للحرية والعدالة الاجتماعية ولكل القيم الايجابية.
- توظيف الجهد الاعلامي للفضائيات لاسيما الدينية والشيعية منها، للمساعدة في إيصال المنهج الثقافي الحسيني الى أكبر قدر من المسلمين عبر العالم.
- ربط الثقافة بزيارة الاربعين يمنحها بعدا عمليا افضل، من حيث الإقبال من عدمه.
- لابد أن يحرص القائمون على الثقافة الحسينية، ويباشرون مسؤولياتهم عمليا وفق تخطيط وتنظيم دقيق.
- أن يتم تقديم ندوات واسعة ومهرجانات كبيرة عن الفكر الحسيني مع استثمار زيارة الاربعين في هذا الجانب.
- ان يكون هناك دور مهم للمسرح الحسيني لزيادة الثقافة والوعي من خلال عرض الاعمال المسرحية في الأماكن المناسبة.
- الاستفادة من المواكب الحسينية لعرض المسرح الحسيني (كـ التشابيه) ولكن بطريقة فنية تهز المشاعر وتضاعف من الوعي.
- ويبقى التخطيط لنشر الثقافة الانسانية الحسينية، بحاجة قصوى للتخطيط والتنظيم والتنفيذ، حتى نقطف الثمار المرتقبة من جميع الجهود التي يتم بذلها في هذا المضمار.
اضف تعليق