تطرقنا في سلسلة مقالات سابقة، الى قدرة التعليم على تحقيق الإصلاح لأمة أو شعب ما، والمناهج الدراسية تقع في صلب عملية التعليم، لذلك أي خلل في هذه المناهج سوف ينعكس سلبا على ثقافة ووعي المجتمع، ويرسّخ قيماُ مناهضة للتطور، لذا يستدعي تعديل المناهج وتنقيحها وتشذيبها من الشوائب الفكرية، على أن يتم لك وفق تصميم وإرادة قوية لمن يهمه الأمر من قادة البلاد، هذه الإرادة ينبغي أن تحضر في التخطيط لمعالجة المناهج الفاشلة، وتعديلها بما ينسجم وروح العصر، فضلا عن صحة الحقائق والأسانيد التي تنطلق منها.
إن إشكالية المناهج في التعليم، تحتاج الى تأني وصبر، ومطاولة في قضية المعالجة، ولا بأس في الاستفادة من الخبرات والكفاءات المشهود لها في هذا الجانب، في الدخل، وكذلك في الخارج، فهناك دول وشعوب عانت من قضية المناهج، وانعكاسها السيّئ على حياة الناس، إذ في الغالب تخلق لهم مشكلات كبيرة تتعلق في عملية توحيد الأمة او الشعب، إذ بالامكان ان تصب مشكلة المناهج في تأجيج الخلافات بين مكونات المجتمع الواحد.
يحدث هذا عندما لا تستند المناهج التدريسية الى العلمية والحقائق، فمثلا عندما نتناول مادة التاريخ، فإننا سوف نقع في حالات تناقض متعددة، من حيث ما يرد من اخبار ومواقف وحوادث تاريخية، يتم نقلها وتدريسها لمئات الآلاف من الطلبة، ولأجيال متتابعة منهم، فإذا كانت الامور التاريخية لا تستند الى الحقائق، سوف ينعكس ذلك على التعليم المجتمعي، وسوف يسهم في تأجيج الصراعات والتصادمات بين الطوائف والمكونات المختلفة.
وبدلا من أن يكون التاريخ عامل توحيد للشعب، يكون عامل تفريق وتشتيت له، من هنا لابد أن تنطلق كتابة المناهج الدراسية ليس للتاريخ وحده، بل الى المناهج التعليمية كافة، لابد أن تنطلق من العلمية الحيادية، ومن الصدقية التي لا يصح إهمالها لأي سبب كان، لاسيما أن هناك تحريف كبير في هذا المجال، من لدن كتاب السلاطين، أولئك الذين حرّفوا الوقائع كما يريدها الحاكم وليس كما حدثت على في الواقع آنذاك.
لا يتوقف الأمر على المناهج ذات الطابع التاريخي، فهناك مناهج علمية بحتة، يمكن أن نعثر فيها على التلكؤ والثبات وعدم مواكبة العصر العلمي المتسارع، فالجمود في المناهج التعليمية، دليل على عقلية جامدة ترفض الابتكار ولا تسعى إليه وربما لا تسمح به، وهناك تجارب كثيرة خاضتها البشرية في هذا المجال، كما حدث في القرون الوسطى، او الفترة المظلمة من التاريخ الاوربي، والسيادة المطلقة لمحاكم التفتيش ومحاربتها للعلماء آنذاك.
العصرنة العلمية
المقصود بالقصور التعليمي، هو عدم قدرة التعليم على مواكبة ما يستجد علميا في مسار التطورات العالمية، ويعني القصور وجود خلل ذاتي في المنهج التعليمي نفسه، أي أن فحواه ومضمونه لا يرتقي الى عنوان (منهج علمي)، والسبب في قصوره الذاتي، وعدم كفاءته، وضعفه او انعدام الفائدة منه بسبب تقليدية المنهج نفسه.
واذا عرفنا أن التطور البشري قائم على عملية التعليم، فإننا يمكن أن نقدّر فداحة ما تتعرض له شعوبنا ودولنا الاسلامية من حيف وتأخّر في هذا المجال، بسبب إهمال القائمين على إدارة العملية التربوية والتعليمية لجانب مهم يقع في لبّ التعليم، ألا وهو تحديث المناهج بما يصب في صالح (العصرنة العلمية)، وهي تعني باختصار إمكانية مجتمع ودولة ما على التعامل العصري مع كل ما يتعلق بالعلم.
فهل نحن في العراق، او في الدول الاسلامية والعربية الاخرى، نلتزم بهذه القاعدة المصيرية من حيث تأثيرها القاطع في تطور المجتمع؟، وهل أعطى القائمون على المناهج العلمية، (وضعا، وتأليفا، وتنقيحا)، ما يكفي من الاهتمام والدقة لهذا المجال الحياتي الحيوي؟، إن الإجابة سوف تأتي غير إيجابية للأسف، حيث تؤكد الشواهد المنبثقة من الوقائع إهمالا كبيرا في هذا الجانب، وضمورا حيال تجديد المناهج العلمية.
وعندما نحاول أو أن نستشهد بأمثلة عن هذا المجال، نقول أن معظم المناهج العلمية، تعاني من النواقص في هذا الجانب، وعندما نقارن مستوى هذه المناهج في دول متقدمة، سوف نجدها تتفوق على مناهجنا بكثير، كما اكد ذلك خبراء في التعليم، الأمر الذي يتطلب مبادرات عملية مدروسة للتصدي لهذا الفشل والقصور الواضح، إذ أنك لا يمكن أن تبني مجتمعا متقدما من دون مناهج علمية متقدمة ومتميزة.
ومن الأمثلة الاخرى في هذا المجال، على سبيل المثال، المحتوى او المضمون الذي يقدمه درس (الاسلامية) للطلبة، إننا نعاني من مشكلة مستعصية في هذا المجال، فبدلا من أن نعضّد الهوية الدينية الفرعية (الطائفة)، ونبرّز ايجابياتها، نقوم بإدراج نوعا من الأكاذيب حول الوقائع التاريخية الثابتة، والسبب كما يقول القائمون على كتابة مادة الاسلامية (لعدم اثارة الفتن بين الطوائف)، وهكذا تتم معالجة الخطأ بخطأ آخر، إذ ينبغي إظهار الحقائق للجميع، من دون إجبار أحد على الأخذ بها، لأننا لا يمكن أن نتطور إلا بالمضي وراء الحقائق واستنادا لها، هذا المثال الواضح يبيّن مدى الإرباك الذي يقع فيه من يكتب التاريخ ويعدّه كمنهج لطلبة الحاضر الذين هم رجال المستقبل وبناة الأمة!.
آفاق الحلول والمعالجات
بعد هذا العرض المدعوم بالأمثلة، ماذا يقع على المسؤولين عن التعليم من إجراءات، لاسيما من يتحمل مسؤولية وضع وإقرار المناهج العلمية للمراحل الدراسية المختلفة، وكيف يمكن أن يتصدى هؤلاء المعنيون بهذا الأمر، لمهمة النهوض بالمناهج التعليمية بما يجعلها مقاربة للمناهج السائدة في الدول المتقدمة، والغرض من ذلك، لكي تكون عملية إصلاح التعليم بوابة لتحقيق الإصلاحات في المجالات الأخرى.
إن الخطوات الإجرائية في هذا المجال، ينبغي أن تلقى الاهتمام الكبير من صنّاع القرار، ولابد أن يصغي هؤلاء الى الخبراء في مجال التعليم، فكثير منهم يقترح إعادة النظر في المناهج الموجودة بشكل دقيق وكامل بما يواكب العصر وحاجة المجتمع والتطلّع الى المستقبل، وما موجود فان معظمه يعد من المناهج التقليدية (الفاشلة)، وهي مجموعة من المواد الدراسية التي تعود الى حقب ماضية، لا تنسجم مع المرحلة الراهنة.
فقد حدث تطور هائل في المجال العلمي وايضاً الثقافي والفكري، بمعنى إن المواد العلمية وايضاً المواد الأدبية مثل "التاريخ" و"الاسلامية" و"الاقتصاد" و"الاجتماعيات" وغيرها، يجب أن تتطور وتتحدث، كذلك يرى المعنيون بهذا الشأن أهمية الإشراف على المنهج التدريسي ليراعي مسائل الصحة النفسية لدى المعلم والمدرس، الى جانب المستوى الاخلاقي والثقافي ومراعاة الأمور الانسانية.
وهناك بعض المقترحات التي لابأس من الأخذ بها من أجل تحقيق قفزة كبيرة في واقع التعليم، لاسيما ما يخص تحديث المناهج التعليمية، ومعالجة مواطن الخلل فيها، من هذه المقترحات:
- اعتماد لجان متخصصة في مجال تحديث المناهج، لها الكفاءة والخبرة الكافية في هذا المجال.
- الاستفادة القصوى من الخبرات الداخلية والخارجية في مجال تطوير المناهج.
- الأخذ بنظر الاعتبار تجديد المناهج بما يحقق تحديثا جوهريا مع الاحتفاظ بالخصوصية.
- تغيير المناهج التقليدية وإعطاء الابتكار والتحليل فرصا أهم وأكبر.
- الحفاظ على الإرث الثقافي ينبغي أن لا يمنع الاستفادة من التجارب الاخرى في مجال تطوير التعليم، ضمن القيم والضوابط المتعارفة.
- لا يصح إهمال التراث في وضع المناهج، فهو يمثل الجذور الأساسية لمنظومة القيم العربية والاسلامية.
- التحديث والمعاصرة لا تعني تقليد الآخر (المتقدم) تقليدا أعمى.
- الحفاظ على الهوية (خط أحمر) كما يُقال، ولكن يوجد هامش يسمح بالاستفادة من الآخرين بخصوص مناهج التعليم.
- على صناع القرار، توفير التمويل اللازم لتهيئة قواعد العمل التي تساعد في تحديث المناهج كافة.
اضف تعليق