هذه ليست المرة الأولى التي يجرّب فيها الانسان العراقي الغربة مع نفسه واقعه، بسبب داء اليأس القاتل الذي ينتشر بسرعة في الاجسام التي يتراجع فيها عمل جهاز المناعة الثقافية، فقد عاش العراقيون في المهجر هكذا تجربة مع الشريحة المثقفة هناك، عندما فضلوا الهجرة الى بلاد الغرب البعيدة، والتخلّي كليةً عن الشعارات والوعود الثورية، ولسان حال معظمهم؛ "فليبق صدام في السلطة عشرات السنين، فهل بوسع هؤلاء وغيرهم تغيير الوضع في العراق..."؟! ومنذ ذاك الحين، بدأت مشاهد الهجرة بقوارب الموت الى استراليا، أو التسلل عبر الغابات الجبلية في تركيا مروراً نحو اليونان ثم دول البطليق وهكذا... قصص مأساوية، راح ضحيتها العشرات من الاطفال والنساء، وإذلال لا حدّ له للباحثين عن الأمل في بلاد اللجوء السياسي والانساني. ولم يتحرك آنذاك أي مثقف غيور، يمتشق قلمه وفكره ولسانه، ليمزق ظلام اليأس عن وجوه الناس الذين هم بالاساس ضحايا اضطهاد وقمع النظام البائد. والنتيجة؛ أن شريحة لا بأس بها توجهت الى بلاد الهجرة قبل ثلاثة عقود تقريباً، وعقدة اليأس في نفوسها لم تُحل، رغم توطنها في بلاد الغرب.
واليوم يتكرر المشهد ثانية على أرض الوطن هذه المرة، ففي تلك الايام كان العراقيون يعانون مشاكل قانونية وأزمات معيشية جمّة، تدفعهم لعمل كل شيء حتى يتخلصوا من "القفص الكبير"، الذي كانوا يعيشون فيه، أما اليوم فانهم يمتلكون الارض والهوية والامكانات المادية بنسبة لا بأس بها، لا تقاس بما كان عليه الحال أيام الطاغية وممارساته القمعية والتعسفية، مع ذلك نرى كيف اصبح من السهل إثارة مشاعر الناس من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام المختلفة، وما قدمته لنا تكنولوجيا المعلومات لتبادل كل ما من شأنه إماتة روح الأمل بالحياة والتشكيك بجدوائية القيم الاخلاقية والانسانية، والحديث المستمر عن الحالة السلبية التي ربما تظهر من الفرد او المجتمع او الدولة، حتى بات الشعور يتعمّق لدى العراقيين بأنهم الوحيدون في العالم، يواجهون أزمات الفساد الاداري في الدولة، ويعانون من ظواهر اجتماعية ونفسية معينة، على أنها من الموروث الملتصق بهوية وشخصية وكيان الانسان العراقي، كما لو ان الشعب الياباني والشعب الالماني والشعب الاميركي، لم يشهدوا أزمات اقتصادية ولا اجتماعية ولا أمنية خلال تدرجهم في مراقي التقدم في المجالات كافة.
صحيح؛ ان الشباب العراقي الذي يهاجر الى بلاد الغرب بالآلاف هذه الايام، إنما يدفعه السبب الرئيس في الفساد المستفحل في جسم الدولة والبلد برمته، بيد أن السبب الآخر له دوره ايضاً، فهو يهرب من ظلام اليأس والخيبة والخذلان، ليس فقط من هذا النائب او ذاك الوزير، فهؤلاء جميعهم، لن يكونوا مجتمعين العامل الرئيس في توفير السعادة للشعب العراقي، وإن كانوا، فبمقدار معين، إنما للشعب العراقي نفسه، افراداً وجماعات الدور الأكبر في تحقيق هذا المطلب. بين هؤلاء الشباب المهاجرين وأمثالهم في الوطن، من يمتلك المهارات والكفاءات والقدرات العلمية والادبية والحرفية، لكنه بحاجة الى الوعاء الذي يصبّ فيه هذا الماء الزلال الذي ينبع من أعماق وجودهم وكوامن نفوسهم التواقة الى الحياة، وهذه هي الفطرة السليمة التي فطرها الله –تعالى – للبشر لتدوم الحياة.
لذا فان المهمة اليوم بشكل محدد أمام المثقفين والمفكرين واصحاب القلم والتعبير، أن يسهموا في إعداد الأوعية المناسبة ليجد الشباب فيها انفسهم وشخصياتهم. وهذا يكون من خلال الأدب والكتابة والخطابة والنشر، وتوحيد الكلمة على الأمل والثقة بالنفس وتقوية الإرادة.
فقد جرّبت الأدوات الثقافية بنجاح إحياء الأمل بجدوائية "العملية السياسية" في العراق، وأن البلد، ومن خلال التجربة الديمقراطية، سيكون الى خير، بوجود وجوه قادمة من الخارج، أطلقت الوعود الكبيرة بحياة سعيدة. فكتب من كتب، وتحدث من تحدث، من خلال وسائل الاعلام المختلفة. وبقي الانسان العراقي يبحث عمن يتحدث عن مشاعره ويكون المرآة الصادقة والصافية عما يحمله من هموم وطموحات. بل العكس وجدنا وقرأنا – للأسف- من ينكئ الجراح، ويعمّق الحالة السلبية والظواهر الاجتماعية السيئة، ويعدها الهوية الاساس للمجتمع العراقي، حتى يخيّل للرائي من بعيد، أن لا شيء غير طبيعي يجري في العراق.
إن علاقة المثقف بالجماهير، ليست دائماً تتجلّى في تنظيم التظاهرات والاعتصامات ومظاهر الاعتراض التفاعلية المصحوبة بإثارة المشاعر والعواطف، إنما هي ايضاً في صياغة الذهنية الثقافية والفكرية، والمساعدة على طريقة التفكير الصحيح وعدم تضبيب الرؤية وإثارة التناقضات، فيضيع الحاضر والمستقبل كما ضاع التاريخ والتراث لدى كثير من الناس. وهذا ممكن في الندوات وورشات العمل المهنية والفكرية في الجامعات والمراكز الثقافية ، والدعوة الى إقامة مراكز خاصة بالشباب للتعبير عن رؤاهم وطموحاتهم، بما يوحي لهم وجود القدرة الحقيقية على الاسهام في التغيير والبحث عن البديل الافضل داخل وطنهم وليس في المهاجر.
اضف تعليق