كل شيء في العراق يبدو مشتتاً، متشظياً بفعل حدة الصراعات والتجاذبات، وهو ما يجعل مهمة الإصلاح ومكافحة الفساد التي يقودها رئيس الوزراء حيدر العبادي، صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة. فالفساد الذي تقف خلفه القوى السياسية صاحبة التجربة الديمقراطية، تواجه حالة تشظّي وتشتت يصعب معها الحديث عن علاج لازمة متفاقمة ومعقدة منذ اكثر من عقد من الزمن، فمهمة العبادي، أشبه ما تكون بمهمة شخص ينقذ انسان تحت شاحنة على متنها حمولة بوزن 60 طن – مثلاً- فالإرباك السياسي يسود الاكراد بسبب الاستحقاق الرئاسي ومن يكون الرئيس القادم، كما يسود السنّة في المناطق الغربية لانقسامهم بين مؤيد لداعش وبين رافض لتحرير الموصل والانبار وغيرها بالشروط الموجودة غير المرضية لهم. وحتى الاصلاحات نفسها في بغداد، فهي تواجه عراقيل غير مرئية لعدم وقوف الجميع صفاً واحداً متراصّاً خلف العبادي في مهمته المنشودة. وهذا بحد ذاته ينعكس على الملف الأمني بشكل خطير، ويجعله عرضة للاهتزاز والاختراق، في وقت تراوح قواتنا العسكرية في مكانها أمام عناصر "داعش"، ما خلا جبهة بيجي، التي يستفهم المراقبون استمرار علميات الكر والفر فيها وفقدان عامل الحسم النهائي.
في مقابل هذا المآل الغريب والعجيب في العراق، نلاحظ وحدة جبهة الفساد والمفسدين في العراق، والسبب أن قضيتهم واحدة، لان جميع من هم بغداد من القوى السياسية يشتركون في همّ ومصير واحد؛ ألا وهو التخلّص من طوق المسائلة الحقيقية – إن وجدت طبعاً- على ملايين الدولارات التي نهبت خلال السنوات الماضية من خزينة الدولة ومن ثروات هذا الشعب، لذا بات من المعروف لدى الجميع أن هذه الشريحة الفاسدة تمارس ما هو أشد فساداً من السرقة وهو التستّر المتبادل على السرقات والاختلاسات.
مع هذا الواقع المرير، كيف يجب ان يكون عليه موقف المتظاهرين في المدن العراقية، وهم يواصلون تظاهراتهم الاحتجاجية ضد الفساد والمفسدين؟.
البعض يتصور أن المشكلة تتمحور حول المال، وأن الاستئثار بالمال والامتيازات سبب الفقر والمجاعة والتشرد، في حين ان معظم – إن لم نقل جميعهم- المتظاهرين من ميسوري الحال، فمنهم الموظف واصحاب المهن الحرة والطلاب و المتقاعدين، إنما هنالك شعور ساد في العراق خلال الفترة الماضية، أن البلاد مقبلة على حالة إفلاس خطيرة، بسبب تراجع اسعار النفط، وبالتبع تراجع العائدات من العملة الصعبة، يعزز ذلك؛ النفقات الباهظة التي ألقيت على كاهل العراقيين لمواجهة خطر "داعش" والعمليات العسكرية منذ اكثر من عام. بمعنى أن المطلب الأساس هو في الطريقة الصالحة وليست "الفاسدة" لإدارة البلد وسوقه نحو شاطئ الأمان.
بينما الملاحظ في بعض التظاهرات، أنها ذات مطالب متعددة تظهر كل اسبوع، كما لو ان هنالك مشاكل شخصية مع هذا المسؤول او ذاك، في حين ان الناس ليست لديهم مشكلة شخصية مع أي مسؤول في الدولة، مثال ذلك؛ مدحت المحمود، رجل القضاء الاول في العراق، والذي أخذ المتظاهرون يكيلون اليه التهم والتهجمات العنيفة، لم يعرفوه طيلة السنوات الاولى من سقوط صدام، علماً ان "بريمر" هو الذي عينه وبقي منذ ذلك الوقت رئيساً لمجلس القضاء الاعلى، ولا أحد يسمع باسمه او دوره في هذا البلد، بيد أن تباطؤه وتخاذله عن مئات الملفات المستحقة لتنفيذ الحكم العادل، جعلت منه وجهاً غير مرغوب فيه لدى الشارع العراقي.
حتى المطلب الذي يرفعه المتظاهرون بحل مجالس المحافظات، يبدو انه غير متبلور وغير مدروس من جوانبه كافة، إذ لابد من وضوح الغاية، وليس الهدف من هذه الخطوة، هب أن المجالس تم حلّها وتمت إقالة المحافظين، كما يدعو البعض الى ذلك، فهل سيأتي الشخص البديل أكثر نزاهة ممن سبقه؟ وما هي المعايير الثابتة في هذا المجال؟.
لنأخذ الثورات الجماهيرية التي حدثت في بعض البلاد العربية، وما أطلق عليها بـ "الربيع العربي"، فقد كانت المطالبة محددة وثابتة؛ "الشعب يريد إسقاط النظام"، فالمطلب كان ينبع من حناجر الملايين، وكل الطاقات والجهود صُبت على هذا الهدف لتحقيقه، وحصل ذلك، بيد ان النتيجة لم تكن في صالح الشعوب، فقد تحقق الهدف لمصلحة جهات سياسية ومخابراتية في داخل وخارج بلدان "الربيع". وخرج هذا الشعب وذاك محملاً بالجراح مادياً ومعنوياً، وخسائر فادحة بمليارات الدولارات.
ما يميزنا عن الآخرين؛ أن جوهر المشكلة لا تكمن في العلاقة بين شخص الحاكم والمحكوم، إنما في المشكلة في الأداء والاسلوب والمنهج، لمجرد حصول بعض التغيير، فان وضع العراق قابل للانتعاش في اقتصاده ومجتمعه وأمنه وكل شيء، بشرط أن تكون الكلمة متجهة الى هدف واحد وغاية واضحة، فاذا فشلت تجربة الديمقراطية التوافقية، وعجزت فكرة إدارة الحكم في البلاد من خلال أحزاب سياسية متعددة تقتسم السلطة، عن توفير الخدمات البسيطة ومنها الكهرباء، أو تحقيق التقدم والتطور للبلاد، مع تلاعب هذه الاحزاب بمليارات الدولارات، فهذا يعني أن يفكر الناس، سواء من توجه الى صناديق الاقتراع او لم بقي في بيته، بأن يتجه الى تجربة أخرى في الحكم، مثل التجربة الرئاسية، مع وجود برلمان بدور رقابي وتشريعي، ويكون زعيم البلد بالانتخاب المباشر من قبل جميع افراد الشعب العراقي. عندئذ تكون الصرخة الجماهيرية، مدوية ونافذة مثل الرصاصة التي تدفعها النار المشتعلة من حبيبات صغيرة للبارود، توجه صوب معسكر الفساد والمفسدين. و{كفى الله المؤمنين شر القتال}.
اضف تعليق