q

كان الإصلاح والثورة يعتبران نقيضين طوال الجزء الأكبر من القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد رأى فيهما مؤيدوهما وسيلتين للتغيير الاجتماعي، لكنهم تمسكوا بنظرات متعارضة تعارضا جذريا حول فاعليتهما والمخاطر التي يتضمنانها. وانتقلت هذه الخلافات الى الادراكات المختلفة للتوقعات الخاصة بالإصلاح الجدير بالاهتمام داخل الدول الدستورية الحديثة، لكنهما اصطبغا أيضا بالنظرات المتصارعة للثورة التي ظهرت في اعقاب الثورة الفرنسية عام 1789: أي الاعتقاد من جهة، بان الثورة يجب ان تميز حركة تقدمية لا تصد في الشؤون الإنسانية، والخوف، من جهة أخرى، بانها قد تحصد حياة أهلها، حين تنتقل عبر دورة لا يمكن السيطرة عليها من التقدمات تدمر امال مؤيديها الأصليين، وفي اغلب الأحيان حياتهم أيضا.

قبل الثورة الفرنسية، لم يكن مصطلحا الإصلاح والثورة يتعارضان بمثل هذا الوضوح، ومع انهما يحملان معاني مختلفة، فكثيرا ما كانت تتداخل استعمالاتهما.

يعني الإصلاح، تحسين وضع أو تعديل ما هو خطأ، أو الفاسد، أو غير المرضي، وما إلى ذلك.

وحرفيا في اللغة الفرنسية والانكليزية ان (يعيد تشكيل) أي ان يشكل من جديد، ولهذا فهو يمكن ان يفهم بمعنيين مختلفين: تعديل حالة مغلوطة للأشياء، او تحويرها نحو الاحسن، والعودة بشيء ما نحو وضعه الأصلي. وهكذا يمكن النظر اليه اما كشيء جذري، او كشيء محافظ، او أحيانا في هاتين الحالتين معا. مثلا، اجتمع هذان المعنيان في الإصلاح في بواكير القرن السادس عشر: فقوض شعار مارتن لوثر (من خلال الايمان وحده) تقويضا جذريا دعاوى الكنيسة بالدور التوسطي بين الله والفرد المؤمن، ومن ثم افرز الحاجة الى مؤسسات وممارسات جديدة، لكنه أيضا كان ينوي اقتراح العودة الى الطرق الاصلية.

تم استخدام المصطلح بالسياق السياسي في أواخر 1700 من قبل حركة كريستوفر ويفل التي سعت للإصلاح البرلماني. و يتميز الإصلاح عن الثورة كون هذه الأخيرة تسعى للتغيير الشامل و الجذري، في حين أن الإصلاح يهدف لمعالجة بعض المشاكل و الأخطاء الجادة دون المساس بأساسيات النظام. و بهذا فإن الإصلاح يسعى لتحسين النظام القائم دون الإطاحة به بالمجمل. و يعد الإصلاح ضرورة في البلدان النامية لتحسين مستوى المعيشة و يتم غالباً بدعم من المؤسسات المالية الدولية و وكالات المعونة. و يمكن أن يتضمن إصلاح السياسات الإقتصادية، و الخدمات المدنية، و الإدارة المالية العامة.

تستثار هذه الاقترانات المتعددة للإصلاح والثورة حيثما يعتبران بديلين لبعضهما، غير ان هناك معنى ثانيا مهما للثورة يعمق المقابلة بينهما. ففي حين يقدم مصطلح (الثورة الكوبرنيكية) مثلا صارخا على معنى الثورة كحركة الى الامام لا تنعكس، فان نشر كتاب نيكولاس كوبرنيكوس عن حركة المدارات السماوية عام 1543 كان مؤشرا على ظهور فكرة الثورة بوصفها حركة دورية او مدارية، أي بوصفها عودة الى نقطة الانطلاق الاصلية.

ففي اوربا القرن السادس عشر، ساد اعتقاد على نطاق واسع، بان هناك نظائر أرضية للحركات السماوية المهمة، اوحت بان هذا الاستعمال للمصطلح يمكن ان يتعلق أيضا بتطورات سياسية واجتماعية. وفضل إحياء الفكر السياسي الكلاسيكي، الذي كان يميل الى تصوير الدول جميعا بوصفها تتحرك في دورات من النمو والانحطاط، هذا الاستعمال أيضا.

يصف كتاب (البهموت) لتوماس هوبز احداث الحرب الاهلية الإنجليزية وما اعقبها كدورة بهذا المعنى بالضبط: اذ كانت (حركة دائرية للسلطة المتسيّدة من خلال مغتصبين من الملك الراحل الى ابنه). وعلى النحو نفسه، وصفت الثورة المجيدة 1688 التي أطاحت بسلالة ستيوارت، في الأقل من لدن مؤيديها، بانها (مجيدة) بسبب ما اسفرت عنه وبانها (ثورة) لانها حققت عودة الى التكوين الحقيقي لانجلترا، ومن ثم كانهاء لدورة.

اثارت الثورة الفرنسية كل هذه المعاني المختلفة، غير ان المعاني التي تتعلق بالحركة الى الامام ولاتنعكس والتقدم الدوري حظيت بأهمية خاصة. في البداية، تم الاحتفاء بالثورة على نطاق واسع باعتبارها حررت شعب فرنسا من اضطهاد الحكم المطلق والتمييز الاعتباطي. وهكذا صار ينظر اليها باعتبارها كشفت الطريق امام بقية اوربا وكمؤشر على بداية حقبة جديدة في الشؤون الإنسانية معا، وقد وصف تشارلز جيمس فوكس سقوط سجن الباستيل بانه (اكبر حدث في تاريخ العالم) بينما سماها فردريك هيغل في المانيا (الشروق الرائع). لكن الرعب اللاحق عند وصول نابليون الى السلطة اثمر استجابة مختلفة تماما، مما أوحى لكثير من المراقبين ان الثورة كانت قوة تدميرية هددت الملكية، والرزق، بل هددت حتى حياة افراد كثيرين، وان الحركة الدورية من الملكية المطلقة مرورا بالفوضى والرعب، وانتهاء بالعودة الى الحكم المطلق – الذي اتخذ هذه المرة صيغة دكتاتورية عسكرية – ربما كانت أيضا امرا لامهرب منه حالما تم التخلي عن العملية النظامية في الإصلاح الدستوري. وكان الاعتقاد بوجود هذه الدورة شائعا على نطاق واسع، ليس فقط لدى السياسيين المحافظين مثل مترنيخ وبسمارك، بل أيضا لدى كثير من خصوم الاطلاقية الليبراليين، بل حتى الى حد ما لدى الثوريين انفسهم.

لم تبدأ الثورة الفرنسية راديكالية -على نحو ما توحي به الأحداث المثيرة التي اختزنتها الذاكرة الشعبية على مر القرون- بل كان المسعى الذي انتهجه الفرنسيون في بداية ثورتهم مسعى إصلاحيا محضا، وهو تحقيق ما توصل إليه جيرانهم الإنجليز قبل ذلك بقرن من الزمان من إقامة ملكية دستورية تضمن للشعب حقه في حكم نفسه بحرية وعدل، وتحفظ للأسرة المالكة أمجادها التاريخية وكرامتها.

ولم يتحسر غوستاف لوبون على شيء أكثر من تحسره على الفرص الضائعة في تاريخ الثورة الفرنسية، فرص الانتقال المرن من الاستبداد إلى الحرية دون تدمير الأمة الفرنسية، وهي فرص ضيعتها الجهالة والأنانية السياسية وقصر النظر الذي اتسم به كل من الملك لويس وطبقة النبلاء ورجال الكنيسة.

اذا كان النقاش القديم عن المزايا النسبية للإصلاح والثورة قد اختفى الى حد كبير عن الخطاب السياسي، سواء في الغرب او في بقية البلدان، فان الرغبة في التغيير الجذري الاصولي مازالت لم تختف، ليس فقط في ما تبقى من الحركة الاشتراكية بل أيضا في الاصوليات الدينية في اميركا الشمالية المسيحية وأجزاء من العالم الإسلامي، وفي الحركات من اجل اصلاح الدول الفاسدة والتسلطية، والقوميات المتعددة الساخطة، ونزعات البيئة الجذرية، وعناصر من الحركة المضادة لعولمة.

مع ذلك، ولان قدرات الدول على تدبير شؤونها الخاصة يبدو انها وضعتها العولمة موضع المساءلة، ولان كثيرا من اهتماماتها تتعدى حدود الدولة، فان هذه الحركات نادرا ما تفهم موقفها من خلال الاختيار الصارم بين الإصلاح والثورة.

اضف تعليق