متى يمكن أن يكون الفرد الغني فقيرا، ومتى يمكن أن تكون الدولة الغنية بمواردها غنيمة للفقر وتئن تحت مطرقة البؤس والفوضى؟ الدولة الغنية بمواردها تكون فقيرة لأنها غير متعلّمة وغير مهتمة بكل أنواع التعليم، ولا تمتلك الخبرات المعرفية والثقافية والفكرية اللازمة، ولا ترغب بامتلاك ثروة التعليم لأن العلم يضر بمصالح نظامها السياسي...
ضمن سلسلة مقالات سابقة لنا عن الفقر، أشرنا إلى أنه لا ينحصر بالعوز المادي وحده، ولا بقلّة الأموال فقط، فهناك دول وأشخاص يمتلكون الكثير من الثروات المادية لكنهم يعيشون فقراء، لماذا؟، لأنهم ببساطة يعانون من أنواع أخرى من الفقر، ومنها الفقر التعليمي، وهو ينتج بسبب الافتقار إلى التخطيط العلمي المدروس.
فما هو هذا النوع من الفقر الذي يمكن أن يصيب الأفراد والمجتمعات، ويجعل من حياتهما مصابة بنواقص عديدة رغم وفرة الموارد والأموال لديهم؟
التعليم كما يصفه المهتمون أو المعنيون هو (عملية تيسير التعلّم، أي اكتساب المعرفة والمهارات والمبادئ والمعتقدات والعادات، وهي عملية قد تأخذ عدة سنوات أو تستمر مدى الحياة، وتجري عملية التعليم عبر وسائل عديدة ومختلفة، فمن وسائل التعليم هناك رواية القصص والنقاش والتدريس والتدريب والبحث العلمي الموجَّه إلى عملية التعلم).
في الغالب يجري التعليم تحت إرشاد معلمين، إلا أن المتعلمين من الممكن أن يعلموا أنفسهم كذلك. يمكن حدوث التعليم في وضع نظامي أو وضع غير نظامي وأية تجربة لها تأثير تكويني على طريقة التفكير أو الشعور أو التصرف يمكن اعتبارها عملية تعليمية. منهجية التعليم يشار إليها بمصطلح علم التربية أو علم التعليم.
التعليم كما يتضح هو عملية اكتساب خبرات، وقد تكون هذه الخبرات ذات طابع تفكيري، أو مادي عملي، وانطلاقا من ذلك، دائما يكون الإنسان بحاجة إلى التعليم، لأنه بحاجة إلى تجديد وزيادة خبراته، كونها الطريق الذي يأخذ بيده نحو النمو المضطرد أو المتصاعد، فمن دون خبرات تعليمية، فكرية نظرية وتطبيقية، يبقى الإنسان في حالة فقر مادي مزمن.
شعوب تراوح في مكانها
هناك شعوب ودول خالية من الموارد الطبيعية (من النفط والغاز مثلا)، وقد تفقر بعض الدول إلى أركان التطور والتقدم، لكنها مع ذلك تمكنت من شحذ الهمم وتطورت وتفوقت على دول وشعوب تمتلك أركان التطور، لكنها بقيَت تراوح في مكانها أسيرة للفوضى والتخلف، الأمثلة عمّا ذكرناه من دول موجودة في عالمنا، من دون أن نسمّي الأمثلة التي نضربها، حيث توجد دول نفطية تمتلك ثروات هائلة لكنها فقيرة.
في حياتنا وواقعنا هناك أناس يمتلكون ثروات كبيرة، ربما حصلوا عليها بالميراث من الأهل أو من الأقارب، أو بطرق أخرى كما هو معروف في واقعنا، أي أنهم أصبحوا أثرياء بسبب الاختلاس والسرقات والفساد المالي، وهي ظاهرة معروفة محليا وعالميا، فالعالم كله يئن اليوم تحت وطأة الفساد، لهذا هناك طبقة معروفة من (الأثرياء الفقراء)، أثرياء بأموالهم وثرواتهم، وفقراء بخبراتهم وبمستوياتهم العلمية والمعرفية والثقافية.
متى يمكن أن يكون الفرد الغني فقيرا، ومتى يمكن أن تكون الدولة الغنية بمواردها غنيمة للفقر وتئن تحت مطرقة البؤس والفوضى؟
الجواب لا يحتاج إلى ذكاء ولا إلى عناء كبير، الدولة الغنية بمواردها تكون فقيرة لأنها غير متعلّمة وغير مهتمة بكل أنواع التعليم، ولا تمتلك الخبرات المعرفية والثقافية والفكرية اللازمة، ولا ترغب بامتلاك ثروة التعليم لأن العلم يضر بمصالح نظامها السياسي.
كذلك الحال بالنسبة للفرد، فهو الغني الفقير حينما تكون موارده كثيرة لكنه غير متعلّم ويفتقد للخبرات، وبالتالي لا يعرف كيف يدير أمواله ويتركها عرضة للتبذير والهدر، ومن ثم الضياع هنا وهناك دونما طائل ولا فائدة.
كيف تتحول الدول من الفقر إلى الثراء؟
هنا يتضح أن الفقر التعليمي هو السبب الأساس الذي يقف وراء بؤس حياة الدولة أو الفرد، والأدلة المعاكسة واضحة للعيان، من خلال وجود الدول ذات الموارد المنعدمة أو القليلة، لكنها مع ذلك تمكنت من أن تسجّل نفسها في قائمة الدول الغنية بجدارة، كيف حصل هذا؟، الجواب معروف أيضا، ويمكن اختصاره بالقول:
إنها دول تعلّمت أن تغادر فقرها التعليمي، وأن تقفز من حالة الجهل والفوضى إلى حالة العلم والتنظيم، علما أن مغادرة الفقر التعليمي ليس أمرا سهلا لكنه ليس مستحيلا.
فحين تخطط الدولة برجالها المخلصين إلى القفز فوق حاجز الفقر التعليمي، وذلك عبر وضع الخطط والإجراءات الفعلية المناسبة والصحيحة لمحو الأمية التعليمية، فإنها تكون قد انتقلت من دولة الفقر إلى دولة الغنى والثراء المبني على الخبرات والمستوى التعليمي المتطور، علما أن هذا الانتقال يكون أكثر سهولة حينما تمتلك الدول الثروات.
الأمر لا يصل إلى الاستحالة، فالمهم في هذا الجانب هو اتخاذ القرار الحاسم من الجهات ذات العلاقة، وذلك بالانتقال من الفقر إلى الغنى، عبر التعليم، وكما هو واضح، يحتاج هذا الهدف إلى خطوات إجرائية سواء تعلّق بالفرد أو تعلّق بالدولة.
المهم في هذا الجانب هو التشبّث بالتعليم وبمراكمة الخبرات والتشبث بالعلم والمعرفة والإبداع، وبحسم القرار لصالح التنظيم والعمل الجاد على معالجة أسباب الفقر التعليمي بجدية وعلمية وتخطيط ومثابرة تامة.
اضف تعليق