لمن يتابع المشهد العراقي من الخارج، من خلال وسائل الاعلام، ويسمع عن التظاهرات الجماهيرية في المدن العراقية، وهي في حالة من الغليان والهياج الشعبي ضد الحكومة والمسؤولين في البلاد، يخال أن الشعب العراقي يواجه أزمة اقتصادية خانقة كالتي تعيشها اليونان – مثلاً- أو كوارث طبيعية تسبب فقدان الملايين للمأوى، أو حروب أهلية طاحنة ونزاعات دينية وعرقية كالتي تجري في افريقيا، لكن عندما يسمع عن امتلاك العراق لثاني احتياطي للنفظ في العراق، وان آخر قطرة نفط تجف في الارض ستكون في العراق – حسب بعض الخبراء والاحصائيات- وأن أراضي هذا البلد يخترقه نهران عظيمان بمياه عذبة؛ دجلة والفرات، كما تضم من القدرات الانسانية والامكانات المادية الى جانب مميزات جيوسياسية، والأهم من كل ذلك، تمتع هذا البلد بنظام ديمقراطي جديد قام على انقاض نظام ديكتاتوري – قمعي، يستغرب – بعد كل ذلك- أن لا يحظى المواطن العراقي من متوسط الحالة المعيشية المريحة. أما ما يقال عن "الارهاب" بكل مفرداته التي تسللت الى الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق، فانها لن تعدو تكون أزمات مفتعلة ومصدرة خصيصاً من الخارج، ولن تكون بأي حال من الاحوال، اسباباً حقيقية لما يعيشه العراقيون، وما يدفعهم اليوم للتظاهر في الشوارع رغم حرارة الجو التي تعد الأعلى في العالم أجمع.
نعم؛ هنالك صراخ من الاعماق من مختلف شرائح المجتمع، تنبئ عن شدّة الألم والمعاناة التي يعيشها المواطن العراقي في أكثر من صعيد، بيد أن المهم تضميد الجرح بعد وضع اليد عليه، لتخفيف الألم تدريجياً، ثم المعالجة النهائية، وليس فقط التهدئة وتطييب الخواطر وتلبية بعض المطالب؛ أليس كذلك؟.
ان الأسى والأسف الذي يزفره المتظاهرون في كل مكان بالعراق، على الأمانة التي ضاعت عند عدد كبير من النواب الذين انتخبوهم خلال العشر سنوات الماضية في اكثر من دورة، ولمجالس المحافظات ولمجلس النواب، على أمل ان يكون هؤلاء هو الأمناء على تشكيل السلطة الحاكمة والمعبرة عن إرادة الشعب وطموحاته، فضلاً عن تغطية حاجاته الاساسية من خدمات وفرص عمل وسكن وغيرها، التي تمثل حقوقاً طبيعية، فكانت النتيجة مخيبة للآمال بشكل فضيع بلغت حد الكشف عن الخيانات والتجاوزات بالجملة، مما دفع بالتهجّم على النواب بشكل عام وعلى كل من يحمل أسم "نائب" سواءً في مجالس المحافظات او مجلس النواب في بغداد.
فهل ان مجلس النواب أو مجالس المحافظات، كمؤسسة دستورية في الدولة، تخرّج الفاسدين وتنمي الرغبات في التملّك والاستئثار وغيرها...؟، أم ان المشكلة في ذات النائب وفي ذات الكتلة السياسية التي حملت هذا النائب او ذاك الى تلكم المجالس؟.
يشير الباحثون في شأن الانظمة السياسية والمؤسسات الدستورية الى ضرورة وجود مجلس النواب في كل بلد، بما له من فوائد سياسية للنظام الحاكم في كسبه المزيد من المشروعية والمصداقية، أو للشعب في ظل نظام ديمقراطي متوازن، يحقق للشعب نسبة من المشاركة السياسية والتمثيل الصحيح بما يحقق له بعض مطالبه ضمن القوانين والتشريعات الخاضعة للنقاش تحت قبة البرلمان.
بيد أن المشكلة تبدأ في "النظام البرلماني" الذي تعتمده بعض البلاد في العالم ذات الباع في التجربة الديمقراطية لعقود طويلة من الزمن، مثل النظام القائم في بريطانيا او اليابان ودول اوربية، بحيث يكون الشعب هو محور السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهو ينتخب نواباً ينتمون الى كتل سياسية (احزاب)، وهذه الكتل السياسية التي ترشح شخص يتولى منصب رئاسة الوزراء، وفي بعض البلاد يُسمى بـ "رئيس الدولة"، فيما يبقى منصب رئيس الجمهورية، منصباً تشريفياً، يعينه النواب ايضاً، وهو خالٍ من الصلاحيات التنفيذية ما عدا بعض الاجراءات والقرارات التي ينصّ عليها الدستور.
هذا النمط من الحكم، ينجح بشرط – من جملة شروط- هو أن يكون أولاً؛ مدعوماً من وعي عميق وثقافة اجتماعية عامة تحكم الربط بين المواطن والمسؤول، فالرقابة والمتابعة من المواطن، من خلال مؤسسات المجتمع المدني والاعلام ودوائر الضغط وغيرها، تجعل المسؤول التنفيذي، سواءً الوزير او المدير او غيره في حالة من الجد والاجتهاد والمسؤولية إزاء كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمصير الموطن، وأي خطأ في الأداء، يمكن ان يعرض حزبه وكتلته النيابية الى خطر التراجع في مؤشر الاصوات والقاعدة الجماهيرية، لذا نلاحظ سرعة تقديم الاستقالة للوزراء في البلدان المتقدمة ديمقراطياً، في حال اكتشاف خلل في العمل او قصور في الأداء، حتى وإن لم يكن بالمستوى الكبير. كذلك الحال بالنسبة لنواب البرلمان الذين يسعون جاهدين دائماً ليكونوا مرآة الشعب، يعكسون طموحاتهم ومطالبهم، في نفس الوقت، لا ننسى مفهوم المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات، وهو ما يفهمه جيداً الانسان الغربي في ظل ديمقراطية كهذه، فكما له حقوق يطالب بها، عليه ايضاً واجبات والتزامات لابد من تأديتها إزاء الدولة والنظام القائم، ربما ليس أقلها الالتزام بدفع الضرائب وعدم التجاوز على حقوق الآخرين.
أما في بلد مثل العراق، الذي تعد تجربته في الديكتاتورية أكبر بكثير من تجربته الديمقراطية، فان من الصعب على النائب من جهة، والمواطن من جهة اخرى، ايجاد علاقة متوازنة وبناءة من خلالها يتم تشييد نظام سياسي ومن ثم تشكيل حكومة تعبر عن إرادة الشعب بشكل حقيقي، وليس عن إرادة احزاب وكيانات سياسية او مصالح فئوية وحتى شخصية. وبما أن النظام السياسي لأي بلد في العالم، إنما يعكس الطبيعة الاجتماعية والهوية الثقافية والحضارية، ففي بريطانيا هنالك نظام برلماني، بينما في الولايات المتحدة، نظام رئاسي، والبلدان يمثلان من الدول المقدمة ديمقراطياً. مما يمكن القول معه؛ إن البديل الأنسب والأفضل له في نظام الحكم، هو النظام الرئاسي، حيث ينتخب كل أربع سنوات رئيساً للجمهورية، يكون مسؤولاً مباشراً أمام الشعب، سواءً عن أدائه هو، او أداء الوزراء الذين انتخبهم وعينهم. لا أن يكون الشعب في حيرة قاتلة أمام مجموعة من الكتل النيابية التي بدلاً من ان تلاحظ حقوقهم ومطالبهم، فانها تعبئ طاقاتها لتبادل الاتهامات والفضائح فيما بينها، فقبل ان يجد الشعب المفسدين الحقيقيين والمسؤول عن هدر مئات المليارات من الدولارات، فان الاحزاب تسبقهم في جمع الوثائق والارقام للايقاع بهذا او ذاك، بما يجعل البلد مسرحاً للمهاترات والمزايدات على حقوق الشعب، ثم الاستمرار في استنزاف أمواله وثرواته بعناوين مختلفة تحت مظلة النظام البرلماني الذي انتخبه الشعب بنفسه.
أما المخرج من الازمة المتفاقمة في العراق، فهي في إجراء استفتاء عام على نظام الحكم، وما اذا كان الشعب يريد "البرلماني" او "الرئاسي" ويتم الاستبدال – في حال التصويت- بشكل تدريجي لا يعرض البلد الى تصدعات او أزمات جديدة، وهذا الحل هو الذي يجيب على مطالب الجماهير بوجود مسؤول يتحمل الاخطاء كما يقوم ايضاً بتنفيذ الوعود الانتخابية ضمن جهازه التنفيذي، وفي نفس الوقت يضع حداً – ولو بمستوى معين- لحالات الفساد والفوضى والمحسوبية والمحاصصة السياسية سيئة الصيت.
اضف تعليق