q

ثمة ابتعاد بين المجتمع والثقافة، وهو واضح من خلال مؤشرات عديدة، مثل قلّة القراءة والاقبال على الكتاب، وقلة حضور الفعاليات الثقافية وما شابه، ربما هنالك مجتمعات اخرى بينها وبين الثقافة قطيعة كما هو الحال مع المجتمع العراقي، وقبل ان نبحث في اسباب هذه القطيعة والسبل الكفيلة بمعالجتها، لابد أن نفهم ماذا نعني بالثقافية، وما هو توصيف القطيعة الحاصلة بينها وبين العراقيين؟.

هنالك تعريفات كثيرة للثقافة، بحسب أهدافها، ولكن ما يهمنا هنا في مقالنا هذا، هو الثقافة التي ترتفع بوعي الانسان، وتجعله قادرا على فهم الحياة وتفسير مجرياتها ومن ثم التعامل معها بطرق ذكية، تستطيع أن تقيه الاخطاء وتبعده عن المخاطر، وبالنتيجة سوف تعمل كل هذه الامور معا لتحقيق الحياة الافضل للفرد والمجتمع، فليس هناك احد غير الانسان والمجتمع أكثر حرصا على بناء الحياة بصورة افضل واجمل، وهذا الشرط لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التثقيف الفردي والمجتمعي عموما، وثمة معادلة لا يمكن أن تخطئ يقول نصها، كلما كان المجتمع اكثر ثقافة كلما كانت حياته أكثر تقدما على ان تكون الثقافة ايجابية الفحوى والنتائج، وهذا يعني اننا من المستحيل أن نصل الى حياة الارتقاء من ثقافة راقية.

أما لماذا القطيعة بين الثقافة والفرد ومن ثم بينها وبين المجتمع؟، فهذا الامر تقف وراؤه اسباب كثيرة، من أهمها أن النخب التي تقود المجتمع لم تؤدّي ما عليهما من خطوات و واجبات في هذا المجال، بمعنى هناك قصور أو تقصير يجعل من قادة المجتمع لا يهتمون بالثقافة ولا يعتنون بها ولا يوفرون المستلزمات المطلوبة لإحياء دورها في تنمية قدرات المجتمع، ولا شك أن الخلل سيعود على الدولة والحكومة رسميا، ومن الجانب الأهلي، يعود الخلل الى المنظمات المعنية بالثقافة، وتتمثل القطيعة بعزوف الجمهور عن متابعة النشاطات الثقافية بالاضافة الى قلّة القراءة، الامر الذي سوف ينعكس على وعي الجمهور والمجتمع عموما.

فالأسباب التي تقف وراء القطيعة بين الجمهور والثقافة كثيرة، ولعل جملة الاسباب هذه يمكن أن تتمحور حول عدم اهتمام المنظمات الحكومية بالثقافة والجهات والمؤسسات الثقافية الاخرى، بالإضافة الى المنظمات الثقافية المدنية، وكل هذه الجهات والمؤسسات تشترك في خلق القطيعة بين المجتمع والثقافة، بالإضافة الى قلة الاجواء التي تساعد على التفاعل الجماهيري مع النشاطات الثقافية المتنوعة، وهنالك من الاسباب المهمة ايضا، تتعلق بالمثقف نفسه وقدرته على التأثير بالوسط المجتمعي الذي يتواجد فيه، فقد اكد غرامشي على اهمية المثقف العضوي المؤثر في الوسط الاجتماعي، ليس من خلال القول المجرد او الثقافة الفكرية المجردة فحسب إنما من خلال الجانب الثقافي الفعلي او الاجرائي الذي ينقل التجربة الثقافية العملية الى المتلقي، ويمكن من خلاله جعل الانسان مثقفا عضويا فاعلا ايضا، وهذا دليل قاطع على أن الثقافة سلوك وليست كلمات او افكار فقط، اما مشكلة المثقفين فهي اساسية وجوهرية، اذ يرى غرامشي ان كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وهي وظيفة لا يمتلكها الا اصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس ومن هنا يستخلص الفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، الاول يعيش في برجه العاجي ويعتقد انه اعلى من كل الناس، في حين ان الثاني يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين وعليه، فان المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا امته، ان اي مثقف لا يتحسس الام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وان كان يحمل ارقى الشهادات الجامعية.

أما آفاق المعالجة، فهي تعود على المنظمات المهتمة بالثقافة، واهمية تفاعل الجمهور معها، وهذا يستدعي دراسة اسباب القطيعة بين الجمهور وبين الثقافة عموما، لاسيما تلك القطيعة بين الناس والمنظمات الثقافية، كذلك هناك تقاعس واضح لدى الافراد في مجال نقل التجارب المثقفة الى بعضهم البعض، ولعل المؤثرات المعاصرة في تقديم المعلومات على طبق من ذهب، وبسرعة خاطفة ومن دون جهد يذكر، ساعدت على خلق بيئة فاصلة بين الجمهور وبين الجهات والمنظمات والمؤسسات المنتجة للثقافة، فما يقدمه اليوم محرك البحث غوغل في دقائق قد تعجز عنه المنظمات في شهور، هذا اذا كانت الثقافة اقوال وافكار فقط.

ولكننا نبحث هنا عن الثقافة التي تؤثر في نمط حياة الانسان وافعاله ايضا، اي اننا نبحث عن اسباب التأثير المباشر للثقافة في الفرد والمجتمع، غيابا او حضورا، فعندما تكون هناك قطيعة بين الثقافة والجمهور، هذا يعني وجود اسباب صنعت هذه الظاهرة وعلينا معالجتها، علما ان هذه القطيعة لا تنحصر بالمجتمع العراقي، فمعظم المجتمعات العربية لا تزدهر فيها العلاقة المتبادلة بين الطرفين.

وهذا الامر يؤكد حالة الخمول المزمنة بين الثقافة والجمهور، ولعل الاسباب واضحة كل الوضوح في هذا المجال، حيث تتمحور المشكلة حول الاهمال الحكومي، والمنظماتي، والشخصي ايضا، فالجميع لهم حصة في صناعة هذه القطيعة، وعلى الجميع أن يتحركوا بصورة منفردة او جماعية لتقليل الفجوة، وازالة القطيعة ومعالجة اسبابها بصورة فعلية وليس بالكلام وحده او بالافكار المجردة التي لا نسعى لتحويلها الى منجز ملموس، ومن ثم صنع حالة تواصل، بين الجمهور والثقافة، فالمجتمع العراقي على وجه الخصوص، بحاجة كبيرة الى نشر ثقافة تنظّم حياته بصورة جيدة وسط حالة الفوضى التي تعم كل شيء تقريبا.

اضف تعليق