الدول الكبرى والعواصم المؤثرة في العالم، تمارس ضغوطها، او تشن حروبها الباردة ضد خصومها، من خلال سلاح المقاطعة الاقتصادية، ولإضفاء نوع من المشروعية على استخدام هذا السلاح، كونه يلامس مشاعر انسانية، يلجأون الى مجلس الأمن الدولي، لاستحصال قرارات تقضي بفرض "عقوبات اقتصادية" على هذا البلد او ذاك، كما حصل مع العراق والشعب العراقي، بعد غزو صدام للكويت، وكما حصل ايضاً مع ايران خلال الحرب العراقية – الايرانية، عندما اصطدمت – آنذاك – مع المصالح الاميركية والغربية.
هكذا تفعل القوى الكبرى مع شعوبنا، فهلا تعلمنا استخدام نفس السلاح للمشاركة في مواجهة محتدمة وحرب ضروس، لكن على جبهة اقتصادية؟ .. طالما بات معروفاً الدور الكبير والواضح للسعودية وتركيا في توفير الدعم اللوجستي لجماعة "داعش" وتمكينها من الهيمنة على مناطق واسعة في العراق، وارتكابها أبشع الجرائم بحق الانسانية، فان الرد ليس فقط بالضرورة ان يكون عسكرياً، ومن خلال المشاركة الفاعلة لابنائنا وشبابنا في مجاميع الحشد الشعبي وسائر القوات المسلحة، انما هناك سلاح آخر لا يقل أهمية وتأثير من الرصاص والصاروخ، إنه سلاح مقاطعة البضائع والسلع الاستهلاكية القادمة من هذين البلدين.
ان الجديد في هذه الدعوة؛ تزامنها مع شهر رمضان المبارك، حيث يعود الحديث مرة اخرى عن العلاقة غير الودّية بين المائدة الرمضانية وبين تجار المواد الغذائية، بسبب استغلال شهر الصوم والتلاعب بالأسعار بشكل لا أخلاقي، وهذا همّ تعيشه معظم الدول الاسلامية في هذا الشهر الكريم- للأسف- . بيد أن في العراق فان المائدة الرمضانية هذا العام، مدعوة لأن تشارك في حملة المقاطعة للمواد الغذائية القادمة من تركيا والسعودية، وحسب القدرة والامكان. والهدف بالدرجة الاولى؛ ايصال رسالة الى من يهمه الأمر في البلدين، الى أن الشعب العراقي يعيش حالة تعبوية واحدة لمواجهة الارهاب التكفيري، فالشاب الذي يقاتل الارهابيين القادمين عبر الاراضي التركية وبأموال سعودية، ويضع روحه على كفه، فان اسرته واصدقائه و ابناء مدينته يعاضدونه في الضرب على تلك الأيادي التي تساعد على شن العدوان وارتكاب المجازر والانتهاكات في العراق.
درسٌ من الهند
ربما يتساءل الكثير عن فائدة هكذا مقاطعة، او العلاقة بين مقاطعة مواد غذائية معينة تعود الى شركات خاصة يملكها تجار واصحاب رساميل. او ان صاحب شركة "معجون الطماطم" أو الزيوت النباتية او السكر وغيرها، سيلحق به الضرر بهذه المقاطعة، فكيف نلحق الضرر بالدوائر المخابراتية واصحاب القرار السياسي؟
ان اول من جرّب سلاح المقاطعة الاقتصادية لتحقيق اهداف كبيرة، هو الشعب الهندي، وذلك قبل حوالي مائة عام، حيث كان في أشد حالات الحرمان والتبعية والضنك. إلا ان وطأة الاستعمار البريطاني وسياسات القمع والإذلال لم تدع هذا الشعب يستمر في سكوته، إنما نهض بقوة بقيادة رجل منهم، عندما وجدوا ان القطن الفاخر الذي يزرعونه بعرق جبينهم، يذهب الى بريطانيا بأبخس الاثمان، ثم يعود متحولاً الى قماش باهض الثمن. وفي عام 1919، أطلق غاندي مقولته الشهيرة: "أحمل مغزلتك واتبعني"، فتبعه الآلاف من ابناء الشعب الهندي، وهم يقتدون بقائدهم بالاستفادة من المغزل اليدوي لنسج القماش بأيدي هندية. وهكذا؛ قاطع الهنود الاقمشة البريطانية المستوردة، فتكدس الانتاج في المصانع البريطانية، بعد ان كانت الهند سوقاً مربحة للقماش البريطاني، والحقت اضرار كبيرة، وحسب المصادر فان هذه الخسائر والضغوط المالية، كانت ضمن عوامل اقتصادية مع عوامل اخرى اجبرت بريطانيا على التخلّي عن حكم الهند، بعد هيمنة مباشرة دامت حوالي اربعة قرون.
ان الحكومة البريطانية آنذاك، وحتى اليوم، لا تمتلك المصانع التي تنتج السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية، وكذلك الحال في سائر الدول ذات الاقتصاد المفتوح (الرأسمالي) او اقتصاد السوق، إنما هنالك اصحاب الرساميل والتجار، هم الذين يسهمون في تحريك عجلة الاقتصاد، بيد ان مهمة الدولة في تنظيم عمل القطاعات الانتاجية وايضاً، مراعاة مصلحة الدولة العليا في مسألة التصدير والاستيراد. وعندما تتعرض هذه المصانع للضرر بسبب مقاطعات من هذا النوع، فانها بالتأكيد ستمارس ضغوطها على الحكومة لتغيير سياساتها بشكل أو بآخر، بل نجد ان حكومات، مثل الحكومة الاميركية او بعض الحكومات الغربية، تفكر بمصالحها الاقتصادية قبل ان تحرك جندياً واحداً في أي مكان بالعالم.
ثم لا ننسى أن العراق في وضعه الحالي، بات يشكل سوقاً مربحة، وفرصة تاريخية لا تعوض لجميع الشركات في المحيط الاقليمي والدولي، لأن تتسابق على توفير حاجات المواطن العراقي، ليس بالمواد الغذائية وحسب، وإنما حتى في أبسط المنتوجات، بسبب انهيار معظم القطاع الانتاجي في العراق بسبب الحروب التي دمرت العديد من المنشآت والمصانع خلال سني الثمانينات والتسعينات. بمعنى ان أي تحول لدى المستهلك العراقي من هذا المنشأ الى غيره، يعرض مليارات الدولارات الى الخطر، كما يعرض أسهم تلك الشركات في اسواق البورصة الى الخطر ايضاً.
تبقى المسألة الفيصل هنا؛ الإرادة والعزيمة في خوض المواجهة الحق، حيث نلاحظ يومياً حجم الجرائم المريعة التي ترتكب في العراق بتمويل سعودي، وفي اليمن بعدوان سافر، نفس الشيء تفعله تركيا في العراق وسوريا. وهذا بحاجة الى حل للمشكلة النفسية التي يشير اليها سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "السبيل الى انهاض المسلمين" في حديثه عن "الاكتفاء الذاتي" ويتساءل عن سبب الخوف من أن "يرمينا أحد بتهمة الرجعية" اذا ما طبقنا قرار مقاطعة البضائع الغربية – مثلاً-؟ لأن "علينا أن نعرف الميزان والمعيار الذي نريد ان نزن به التخلف والتقدم والرجعية والجمود، هو ميزان الفضائل الانسانية، وهو الطهارة والنزاهة، وإعطاء حاجات الروح وحاجات الجسد، وإنقاذ المستضعفين من براثن المستغلين والمستعمرين".
البديل للمائدة الرمضانية
مرة اخرى، نعود الى تجارب شعوب تحملت شظف العيش وقلّة الرفاهية في معيشتها، مقابل شراء كرامتها وعزتها. ثم ان تحمّل عدم وجود هذه السلعة او تلك، لن يطول سنوات، إنما القضية لفترة معينة، ثم يجني الشعب المقاوم ثمن اتعابه وصموده. أما في العراق فان البدائل كثيرة للموطن العراقي، وما عليه إلا ان يختار ما يكون أطيب الى القلب والنفس للمائدة الرمضانية، هذا فضلاً عن البديل الآخر الذي يحتاج الى بحث مستقل، وهو الاعتماد على القدرات الذاتية لإنتاج المواد الغذائية، وهذا يُعد قمة في المواجهة والتحدي، لذا نجد ان شعوباً اكتفت بنسب عالية من مواد اساسية من القمح والرز والزيوت والسكر وسائر المواد الغذائية اضافة الى المواد الاساسية الاخرى، وبهذا الاكتفاء وجهت صفعة قوية الى القوى المعادية، ربما تفوق في قوتها قوة الصواريخ الباليستية، لأنه بالامكان الرد على الصواريخ، لكن من الصعب الرد على مقاطعة البضائع واعتماد الشعوب على نفسها.
اضف تعليق