q

من التجارب الفاشلة والمدمرة في بلادنا خلال قرن من الزمن، اختلاق أزمات سياسية بين الدول الحديثة النشوء اساساً، عربية كانت أو اسلامية، تحولت بسرعة وبشكل غريب الى حروب طاحنة دفع ثمنها الملايين من الابرياء، واستحالت الحياة المدنية الى حياة عسكرية، حيث لا أمان للإنسان في بيته، ولا على مصيره ومستقبله. فكل شيء يتعلق بالحرب والمواجهة وترقّب العدو كل لحظة، كما لو أن الشعوب الاسلامية، عادت اربعة عشر قرناً من الزمان الى الوراء، عندما كانت القبائل في الجزيرة العربية، تتوقع كل لحظة، غارات السلب والنهب والعدوان. فكان "شعارها الخوف ودثارها السيف". وهو أدق وصف للحالة الجاهلية على لسان أمير المؤمنين، عليه السلام.

فما السبب من وراء هذا التقهقر والسقوط في مستنقع الحروب والأزمات، وما يزال التخبّط قائماً؟!.

الرؤية السياسية، ربما تتجه الى أن من يريد توفير أمنه القومي، لابد من خلق الازمات في خارج حدوده، ليشغل العدو او المتنافس المتربّص، بهذه الازمات وينشغل عن التفكير في الهيمنة والتطاول.

هذا المفهوم الجاهلي تحول الى منهج لعديد البلدان العربية والاسلامية، خلال العقود الماضية، واذا ما راجعنا احداث الحروب التي نشبت بين هذه او تلك من الدول، اكتشفنا دور المخابرات في خلق الازمة، عبر بث الشائعات وصناعة رأي عام، والابتداء بحرب نفسية واسعة النطاق. وهو ما جعل هذه البلاد تصل الى الدرك الذي تتخبط به اليوم، حتى بلغ الحال ببعض هذه البلاد أن تفقد صفة "الدولة" بمؤسساتها وهيكليتها، بعد ظهور اكثر من دولة داخل دولة. وهذا ما حذر منه سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، قبل اكثر من ثلاثين عاماً.

المعارض ينفع أكثر من المؤيد

اذا اردنا حقاً تحقيق نجاحات في دولنا – مع قناعتنا بأن الموجود على الخارطة حالياً، عبارة عن دويلات- لابد من الحؤول دون ظهور الحالة العدوانية لدى الشريحة المعارضة والمتمردة في المجتمع، سواءً انطلقت من جماعات منظمة، او من شريحة اجتماعية معينة، مثل العاطلين او التجار او الاكاديميين أو الفنانين وغيرهم، فهؤلاء بالإمكان ان يقدموا الكثير للمجتمع والدولة بما يخدم الصالح العام، لان ببساطة هم يعودون في كل الاحوال، الى الارض التي يعيشون عليها. فاذا وجدوا العناية والتفهّم، يتغير الموقف لديهم، بصرف النظر عن الاختلافات في الرؤى والتوجهات وحتى الاهداف، لان الجميع سيلتقون عند الغاية القصوى، وهي المصلحة العليا للبلد.

وثمة حقيقة هامة طالما تغيب عن المعنيين في الشأن السياسي، وهي ان هذه الشريحة المعارضة، تكون أكثر جهوزية للتفاعل وتقديم الافضل من الشريحة المؤيدة، او من نلاحظهم في بعض البلاد، مثل "مناصري الثورة" او "أبناء القائد" وغيرها من الاوصاف، لان "من يخشى سقوطه ويحتاج الى بقائه، فانه يخلص للدولة اذا ما استقطبته واستوعبته، بهدف محو ما سلف من العداء، وللإبقاء على مركزه..."، طبعاً مع التحقق من عدم وجود نوايا انتهازية في الأمر.

ويؤكد سماحة الامام الشيرازي على أن "اللازم على الدولة العاقلة أن تبقي على صداقة الاصدقاء، وتهتم لاستقطاب الاعداء، وكذلك نرى فعل رسول الله، صلى الله عليه وآله، حيث أبقى على صداقة المهاجرين والانصار، كما استقطب أهل مكة الذي محضوا العداء له مدة عقدين من الزمن، بل لما تمكّن من يهود خيبر، تودد اليهم بتزوّج إحدى بناتهم (صفية)، وترك دورهم لأنفسهم والمقاسمة معهم في أراضيهم الزراعية وبساتينهم".

ما نعنيه بالنجاح للدولة بهذا الاسلوب، فانه يعبر عن خطوات بعيدة في طريق النمو والتقدم في المجالات كافة، لان جميع المنتمين الى الدولة الواحدة سيبذلون قصارى جهدهم، بل ويتنافسون على تقديم الأفضل وكسب قصب السبق للابتكار والابداع في الصناعة والزراعة وفي المجالات العسكرية والامنية والخدماتية وغيرها.

النجاح على المدى البعيد

نعم؛ ربما يكون المناصرون والمؤيدون للثورة والدولة والقائد، أسرع في العطاء من غيرهم، فهم في الساحة كلما كانت الحاجة، من خلال تنظيم التظاهرات والفعاليات السياسية المختلفة وحتى من خلال التعبئة والتحشيد لأمر المواجهة العسكرية. بيد أن الدولة الناجحة التي تمتلك رؤية استراتيجية وتفكر على المدى البعيد، تحتفظ بهذه الشريحة المتضامنة والمعبئة، وتفكر ايضاً باستقطاب الشرائح الاخرى لضمان المستقبل، لانها لن تكون ضامنة لهذا التضامن في كل الاحوال، وطالما انقلبت الصداقات والتحالفات الى عداوات بشكل غير متوقع، وربما تكون صدمة هذا التحول أمرّ وأمض من ضربة متوقعة تأتي من معارض او عدو. من هنا نفهم السبب في عدم القضاء على رؤوس الشرك وإبقاء النبي الأكرم، لهم بعد فتحه مكّة وتسلّمه مقاليد الامور وتشكيله الدولة الاسلامية لأول مرة.

وهذا ما أثار بعض الباحثين ليتسائلوا عن سبب عدم القضاء على معاوية – مثلاً- حتى لا يكون عدواً في المستقبل لأمير المؤمنين، لان امر بناء الدولة لايتعلق بأشخاص إنما بحالة عامة تمثل جزءاً من الدولة، والحالة هي التماسك والوحدة الداخلية، وإلا فان امثال معاوية تكرروا مع الزمن، مثل طلحة والزبير والخوارج، في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، وايضاً العباسيون في العهود اللاحقة، وكذا من اعقبوهم في الحكم، وكل هؤلاء كانوا ضمن كيان الدولة الاسلامية الواحدة.

ان الفتك والتصفيات الجسدية كان دائماً منهج الدول الفاشلة، وهذه الحالة المرضية في الساسة، ما تزال الشعوب تدفع ثمنها وتعاني منها حتى الموت. واذا القينا نظرة خاطفة على ما يجري حالياً في منطقتنا (الشرق الاوسط) تحديداً، نجد أن جوهر الازمة لدينا في اختلاق أعداء وواجهات للحرب والاعمال الاجرامية والوحشية، بل والبحث عن المزيد من الجماعات التي تحمل ردود افعال عنيفة ودموية لإغراق البلاد والعباد في مستنقع الدم وإبعادها تماماً عن كل ما يتصل بالتطور والتقدم والاستقرار.

اضف تعليق