بالأساس، وجود شيء حسن الى جانب آخر رديء، يكون مثاراً للتمييز، يجر بصاحب الرداءة الى مستوى أدنى في المجالات كافة، وهو بدوره يثير الكوامن والنزعات النفسية للتعويض عن هذا الخلل وسد الفراغ، مهما كلف الثمن. وكلما كان التفاوت في أمور كبيرة وذات أبعاد واسعة في الحياة، كانت ردود الفعل أقوى وأشد. لذا فان التفاوت في النموذج، ليس كالتفاوت في ماركة السيارة، او حجم البيت، او الرصيد المالي وحتى المستوى العلمي والثقافي، لان القضية هنا تستتبع أمراً غاية في الاهمية، وهو القيادة والإدارة. فالنموذج الصالح والناجح، يعني رسم خارطة طريق من قبل شخص واحد، لآلاف، وربما ملايين الناس، سيسلكون هذا الطريق ويتبنون ما يضم من افكار ومشاريع.
من هم أصحاب النموذج الناجح؟
حاولت جهات عديدة الظهور على أنها تمتلك العصا السحرية لتغيير الواقع السيئ وانقاذ الناس من مشاكلهم وازماتهم، ومن ثم الحظوة بثقة الناس وايمانهم. فكانت الاحزاب السياسية والتيارات الفكرية، وظهور رموز قيادية في بلادنا خلال العقود الماضية، وقد جربت الشعوب صعود اشخاص على قمة السلطة، وهم يحاولون بمختلف الاساليب رسم صورة النموذج الناجح للشعوب. وبعيداً عن التقييم، لان القارئ الحصيف، ربما لا حاجة له باستذكار الماضي المؤلم. فان هناك اشخاصاً برزوا ايضاً على الساحة، وتسنّموا مراتب قيادية، لكن دون السلطة والحكم، فكانوا مصلحين وثوار، توجهوا بالدرجة الاولى الى الذات الانسانية، وليس الاموال والمناصب والامتيازات وسائر اشكال القوة المادية. فقدموا النماذج الراقية للانسان القادر على تغيير الواقع وتحقيق النجاح وتحدي الصعاب مهما كانت.
مثالنا الأبرز؛ الزعيم الهندي الراحل، "المهاتما غاندي" الذي قدم لشعبه وللعالم نموذجاً للإباء والتحدي والنصر على قوة حكمت بلاده حوالي خمسة قرون. لقد في البداية محامياً شاباً، حاله حال الكثير من الشباب الهندي الطامح للهروب من واقع العبودية والضيم، الى حيث الرقي والسعادة. بيد أن هذا الشاب أراد ذلك لشعبه الفقير والمعدم. وعندما اصطدم مع الاستعمار البريطاني أول مرة، كان عمره ستون عاماً، حيث تحدى سلطات الاستعمار باستخراج فيما عُرف بـ "ثورة الملح"، وفي عام 1930 انطلق مع عدد من أتباعه في مسيرة طولها 322كيلومتراً من بيته الى البحر لاستخراج الملح بانفسهم، وتحطيم جدار الخوف من المستعمر والمحتكر البريطاني لهذه المادة التي كانت تمثل آنذاك ثروة وطنية للشعب الهندي، وقد حذر البريطانيون حينها من المساس بها. وعندما وصل الى البحر، مشى في الماء وأخذ حفنة من الملح وعرضها امام شعبه والعالم، كإشارة على التحدي والإصرار على المطالبة بالحقوق المشروعة. ومن هذه البداية البسيطة والسلمية، بدأت ثورة استقلال الشعب الهندي، وقدم في هذا الطريق الآلاف من القتلى، حتى رضخ البريطانيون لمطلب الاستقلال عام 1947.
والسؤال هنا؛ كيف يذكر البريطانيون هذه الشخصية العالمية الشهيرة؟
بنفس المستوى من الشهرة والانتشار يحاولون، منذ ذلك الحين وحتى اليوم، من خلال وسائل اعلامهم المنتشرة في كل مكان، لتشويه هذه الصورة والتقليل من أهميتها، مثال ذلك ما تقوم به "بي بي سي"، من اعداد برامج عن الحياة العائلية والشخصية لغاندي والحديث عما كان يعيشه من مشاكل أسرية، كما لو المعد يريد الإيحاء الى المشاهد، بأن قائد الثورة، يجب ان يكون من جنس الملائكة، وتحيط به ملائكة آخرين في أسرته وأقاربه ومجتمعه، وبذلك يكون جديراً بالحب والاعتزاز...!
ويذهب سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "مطاردة قرن ونصف"، الى أن البريطانيين كانوا وراء عملية اغتيال غاندي لانهم "كانوا يقصدون من وراء ذلك تمزيق الهند والحيلولة دون استمرار الوحدة بين الهند وباكستان، فقد كان غاندي يصرّ على قيام الوحدة وأبدى استعداده لمنح محمد علي جناح، أول رئيس لدولة باكستان، رئاسة الدولة الموحدة".
كذلك الحال بالنسبة لعلماء الدين، وتحديداً في ايران والعراق، فالمتابع والباحث لن يقرأ في مكان ما، تجريحاً او تشكيكاً بمصداقية العلماء، إلا عندما تصدّوا لأمور الامة ومشاكل الانسان في نفسه ومجتمعه. وطالما حذّر سماحة الامام الراحل من مغبة المساس بعلماء الدين، لان الاصطدام بالعلماء المناضلين والمصلحين، يتسبب تحطم صاحبه لامحالة، والامثلة عديدة في أنظمة سياسية في ايران والعراق طيلة القرن الماضي. ويوضح سماحته في كتاب "الصياغة الجديدة"، السبب في هذه القوة، بأن "علماء الدين محصنون بثلاث أمور؛ الاول: الجماهيرية، والثاني: النصوص الدينية، والثالث: التاريخ النضالي".
فعندما يتصدّى عالم دين في مرتبة قيادية في الساحة الاسلامية، مثل الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- الى مهمة الوقوف بوجه الاستعمار البريطاني، ويصدر فتوى الجهاد والثورة المسلحة ضد المحتل، من الطبيعي ان يتحرك البريطانيون واذنابهم لشن حملة تشويه وتشكيك ضد هذا العالم القائد، لاسيما اذا عندما يكون الموقف العسكري والسياسي والاجتماعي لغير صالح المحتل، لذا كانت الدعاية المنشورة بأن نجل الامام القائد "السيد محمد رضا" متأثر بالثورة البلشفية، بما يوحي الى الشارع العراقي بان ابن مرجع دين، ينتمي الى الماركسية...! والمثير والمؤسف في آن، أن نجد لهذه الإشاعة مكاناً في دراسات وبحوث اكاديمية لكتاب عراقيين، واصفين القضية بالحديث التاريخي، ومستندين في ذلك بمصادر المخابرات البريطانية!
كل ذلك يؤكد لنا حرص البريطانيين، وسائر القوى العظمى المعنية بالهيمنة في العالم، على عدم السماح لأي نموذج يأخذ مكانه في الساحة ثم يهدد مصالحهم، لان وجود نموذج العالم الثائر والمصلح في قلوب الناس وفي عقولهم ايضاً، يعني عدم استقرار أي نوع من المصالح الاقتصادية او المؤثرات الثقافية او التدخلات السياسية، في ذلك البلد، فهكذا نموذج يدعو الى الاستقلال والحرية والكرامة، وبالنتيجة؛ يحقق الشعب طموحاته في النمو والتطور والاكتفاء الذاتي. ولعل سماحة الامام الراحل، يكون من اكثر علماء الدين الذي تعرضوا للتشويه والإساءة طيلة حوالي اربعين عاماً، بهدف إبعاده عن واقع المجتمع، كنموذج للأخلاق العالية، ونموذج للفكر المتكامل والأصيل والثقافة الانسانية الراقية.
نصرة النموذج...
ولنا أن نتساءل ونبحث عن الدور المطلوب إزاء النموذج الناجح الذي نتحدث عنه؟ فهل نجلس ونتفرج على الصراع المرير على امتداد الزمن بين النموذج (القدوة) وبين أعدائه في قالب المستعمر او الحاكم بإذن المستعمر او جهات متأثرة بهذا النهج...؟!
عندما يكون الهم الأول والاخير لهذا النموذج والقدوة الحسنة (الأسوة)، كما وصفها لنا نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، هو الانسان، وليس شيئاً آخر، فان من العدل والانصاف أن يكون الانسان؛ الفرد والمجتمع، ايضاً في مستوى مماثل او قريب منه من المسؤولية لاكتمال الصورة والحالة التي ينبغي ان تكون. فالاستقلال الذي نشده غاندي لشعبه، قابله تفاعل جماهيري، مليوني لتحقيق هذا المطلب الجماهيري العتيد. كذلك الحال بالنسبة لمطالب مستجدة، مثل الامن والاستقرار والتقدم العلمي والاكتفاء الذاتي بما يكفل الحياة الحرة والكريمة، لابد – من الناحية المنطقية- من التجاوب معها بحراك جماهيري، على الاقل يحمي هذا النموذج من الضياع، فهنالك قادة ثاروا للإصلاح والتطور، لكنهم لم يشهدوا ثمار ثورتهم في حياتهم، إنما بعد حين، ومثالنا الأبرز في ذلك الإمام الحسين، عليه السلام، الذي ثار من أجل قضية انسانية ودينية، ولم ير ثمرة نهضته وثورته في حياته، بيد أننا اليوم نلاحظ ثمار عظيمة في العالم للنهضة الحسينية، وممن استفاد من هذه الثمار نفس ذلك الزعيم الهندي الذي حرر شعبه من الاستعمار البريطاني.
فاذا لم تكن المحافظة على النموذج الأعلى والأرقى للثورة من اجل الإصلاح والتغيير الانساني، من خلال جهود ودماء علماء الدين والخطباء والمخلصين المضحين من اتباع أهل البيت، عليهم السلام، طيلة القرون الماضية، لما تمكن أمثال غاندي او غيره من الاستفادة من هذا النموذج، ولم يكن الحكام الطواغيت في العراق، على طول الخط، يحسبون ألف حساب لشيعة العراق، قبل ان يفكروا بتسلّق طريق الحكم، ولما كانت المعادلة الثابتة تؤدي مفعولها، بسقوط كل من اصطدم بهذا النموذج العظيم.
اضف تعليق