q

يشكل التحفّز والتوثب في الانسان، عاملاً أساس في تشكيل عجلة التقدم لدى أي شعب وأمة، فما بلغته دول مثل الصين واليابان والهند والمانيا، من مراقي التقدم العلمي في الطب والالكترونيات وهندسة البناء والتصنيع وغيرها، يعود بالفضل بالدرجة الاولى الى الحالة النفسية المتوازنة التي يحملها انسان ذلك البلد. طبعاً؛ هنالك ظروف وأجواء مساعدة، مثل تحدي افرازات الحرب، او تحدي القوى الاخرى المتصارعة على النفوذ والهيمنة في العالم، ساعدت ذلك البلد على المضي في طريق التقدم، عندما وجد أنه أمام اختبار القوة في حرب الوجود.

وهذا ما لا نجده في بلادنا، لاسيما؛ العراق، وسبب التركيز على هذا البلد، كمثال، أنه يحمل كل مؤهلات النمو والتطور، فهو يمتلك القدرات الانسانية، من عقول وتعداد سكاني متوازن مع مساحته الجغرافية، وايضاً من قدرات مادية هائلة، متمثلة في الثروات المعدنية والحيوانية والتربة الخصبة وغيرها كثير. والأهم من كل ذلك، التحدي الماحق الذي يواجهه من جهات مختلفة، يستهدف ليس فقط اقتصاده ومعيشته، إنما طريقة حياته وتفكيره وثقافته، مع ذلك؛ نجد أن الانسان العراقي يواجه مشاكل في عملية التغيير نحو الأحسن، والسبب في ذلك، الانطباع السيئ عن الحاضر والمستقبل، والشعور المتزايد باليأس والخيبة والاحباط.

بقطع النظر عن الاسباب التي خلقت هذه الحالة النفسية المعقدة، من حروب وسياسات فاشلة وأنظمة ديكتاتورية، يبقى الانسان ميالاً الى التطور والتغيير، اذ ليس من المعقول القبول بما هو أدنى مقابل نماذج التطور والرفاهية لدى شعوب في العالم. فيكف الخلاص من هذا الشعور السلبي إزاء مجمل الاوضاع؟

البعض يتصور أن خلق الشعور الايجابي يتم من خلال الارتباط بتجارب الآخرين، من مفكرين وأدباء وعلماء، وكيف أنهم أوجدوا لشعوبهم نسبة عالية من الرفاهية والنظام. فهؤلاء هم مبعث الأمل في الحياة، ومن خلالهم يمكن تلمّس طريق التغيير والتطوير. بيد أن حقيقة الشعوب والأمم الاخرى لا يمكن فهمها من خلال اوضاعنا الخاصة، بما نمتلك من تاريخ وحضارة ومؤهلات اقتصادية واجتماعية، فهؤلاء إنما صنعوا لأنفسهم الحالة الايجابية لتحقيق أهداف وغايات خاصة بهم، كأن تكون لتجاوز آثار الحروب أو الأزمات الاجتماعية او الاقتصادية. في حين ان بلادنا، اضافة الى امتلاكها القدرات الانسانية والطبيعية، فانها تمتلك الرصيد الحضاري الضخم الذي يعطيها كمّاً هائلاً من التجارب والدروس بما يجعلها قادرة على التقدم خطوات بعيدة الى الامام.

فقد مر المسلمون بتجارب غنية في تاريخهم، كانوا أسياد العالم، يصدرون العلوم والآداب والثقافة والفنون الى العالم، وهم آنئذ لايمتلكون من وسائل العيش، ما نحن فيه من رفاهية وامكانات، لكنهم كانوا على درجة عالية من الهمّة والثقة بالنفس، على أنهم اصحاب الحق وأنهم الأقدر والأجدر على تقديم النموذج الأفضل لحياة الانسان، لذا نجد قامات شاهقة في سماء العلم بزرت في العهد الاسلامي الاول، من امثال جابر بن حيان والخوارزمي والحسن بن الهيثم وغيرهم كثير.

فما الذي دفع بهؤلاء وغيرهم من العلماء الذين تكاثروا مع مرور الزمن، وتخرجوا من المساجد ثم الحوزات العلمية، لأن يشقوا طريق العلم والمعرفة، مع وجود العقبات والتحديات الرهيبة امامهم؟

إنها الثقة العالية بالنفس والنظرة البعيدة الى آفاق المستقبل، فمن يمتلك قوة دفع حضارية كالتي لدى المسلمين، لن يشغله حاكم ديكتاتور او شرطي يضايقه او ظروف معيشية تثير الازعاج احياناً، وهذا تحديداً ما يشير اليه سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين"، باننا "لا نرى مسيرة علمية، ولا من ذوي المكانة الاجتماعية والسياسية، إلا و كان صاحب المبادرة الأول، قد بنى بهمته، لنفسه ولأعقابه الذي من بعده، مكانة وسمعة وحركة ونهضة...".

من هنا؛ نجد أن الامام الشيرازي يدعونا في العراق، بل وفي سائر البلاد الطامحة للتغيير والتطور، للتخلص من المشاعر السلبية والخانقة من خلال الارتقاء بهمتنا الى أعلى المستويات، وعدم الاكتفاء بالقليل، وإن كان كلام سماحته يصدق على الاوضاع التي كان يعيشها سماحته – قدس سره- في نهاية ثمانينات القرن الماضي، حيث ألف الكتاب، فانه يصدق أكثر في الاوضاع التي نعيشها اليوم. فنحن بحاجة –بالحقيقة- الى مزيد من الجهد والعمل المنظم لمواجهة التحديات، على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والفكرية.

صحيح؛ أن البعض يتذرع بأن الاجواء الخانقة، ليس من السهل التخلص منها، لوجود اطراف وجهات عديدة، لها مصلحة في بقاء الوضع كما هو في العراق، إلا ان من يروم التغيير، لنفسه ومجتمعه وأمته، عليه ان يوفر متطلبات التغيير الذاتي داخلياً، وإلا فان كل المشاعر السلبية، من يأس وإحباط وهزيمة نفسية، هي التي تنكّد عليه عيشه، وليس الاطراف العوامل الخارجية.

اضف تعليق