في خضم الحرب الساخنة، وما يتمخض عنها ضحايا وخسائر ومواقف وتصريحات وضجيج لا حدّ له، ربما يغفل البعض عن دور الحرب الخفية التي لا تستهدف الأبدان، إنما الأذهان. هذا النمط من الحرب، الذي بات يخصص له قسم خاص في اكاديميات الحرب لدى الدول المعنية بالهيمنة والتسلّط في العالم، له خلفية تاريخية، على الأقل في تاريخنا الاسلامي، ولعل أول من جرّب الحرب النفسية، هو عمرو بن العاص، بفكرة "رفع المصاحف"، وما نتج عنه من تغيّر في ميزان القوى لغير صالح جبهة الحق المتمثلة بأمير المؤمنين، عليه السلام. والسبب في هذه الغفلة، ربما يعود الى تغليب الحالة العاطفية في المنعطفات التي تمر بها الحرب، مثل قلّة المُؤن والدعم اللوجستي او حصول خيانات معينة، او حصول اختلال في ميزان القوة على الارض، وغير ذلك، مما يتسبب في هشاشة في الحالة المعنوية، فيتحول الهدف والغاية من وراء خوض الحرب، كمثل قارب صغير على أمواج عاتية، ليس فقط لا يهتدي السبيل، إنما يُخشى عليه من الابتلاع والدمار.
وهذا ما يواجهه العراقيون، وايضاً سائر الشعوب التي تواجه خطر الارهاب الطائفي والتكفيري، فقد ثبت بما لايقبل الشك، أن الجماعات الارهابية، سواءً في العراق او في سوريا أو غيرها، لا تمتلك القوة الكافية لأن تثبت وجودها على الارض، لأسباب أهمها و ابرزها؛ عدم مقبوليتهم عند الناس لما يقومون به من اعمال دموية ووحشية وتطويع الدين والشريعة لأهدافهم الخاصة، مما يدفعهم للتحرك خلف الستار وتكثيف العمل في جبهة الحرب النفسية، من خلال توظيف الإشاعة ونشر الاكاذيب وتحريف الحقائق. وأول نتيجة معروفة لهذه الحرب، زرع الشعور بالخيبة والخذلان واليأس، بما يعني اختراقاً ليس فقط في صفوف المقاتلين خلف السواتر وفي الخنادق، وإنما في نفس كل جندي يحمل هدفاً مشتركاً تطوع من اجله، ويضحي لتحقيقه.
إن الغايات القصوى من وراء خوض الحرب لدى الجماهير العراقية، أبعد وأكبر بكثير مما يحمله عناصر تنظيم "داعش"، فقوات "الحشد الشعبي" تألفت وتعاظمت من فتوى مرجع دين، تتألف من كلمتين: "الجهاد الكفائي"، ولا تتضمن وعوداً كبيرة وشعارات براقة كالتي يستخدمها الارهابيون عبر العالم لإثارة مشاعر بعض السذّج من المسلمين، بأن هنالك "خلافة اسلامية" على وشك الظهور من جديد، وهي كفيلة بأن تضع حداً لكل المآسي والويلات التي يتجرعها المسلمون، سواء في بلدانهم او في البلاد الاجنبية، وهي التي ستعيد لهم كرامتهم وقوتهم. مع ذلك، فان المعطيات على الارض تؤكد أن هؤلاء المغرر بهم عاجزون عن التصدّي للملاحم البطولية التي يسطّرها ابناء "الحشد الشعبي"، فهم غير قادرين، أو ربما ليست ثمة ارادة من القيادة المحركة لهم، على التضحية بافرادهم في ساحات القتال، سوى بعض الحالات الانتحارية التي يقدم عليها بعض المغرر بهم من المتطرفين والمشحونين عقداً نفسية في بلادهم، قبل ان يتم شحنهم بالمتفجرات.
هذا الخطر الماحق، يجعل قادة الارهابيين على التفكير بشكل مكثف لتوظيف الحرب النفسية للتعويض عن ضعف الجبهة لديهم في الحرب الساخنة، وهذا ما يحصل حالياً في المعارك الجارية في الانبار – على سبيل المثال-، وهذه لن تكون المرة الاولى، ولا تكون الاخيرة في تعرّض جبهاتنا الى هكذا نمط من الحرب، مما يستدعي المزيد من الحيطة والحذر، والاحتكام دائماً، الى العقل والحكمة، قبل المشاعر والعواطف، التي لها دورٌ ايجابي وبناء ايضاً في تعزيز الروح المعنوية للمقاتلين.
في كتابه الشيّق والرائع، "لكيلا تتنازعوا"، يتحدث سماحة الامام الراحل، عن تجربته في مواجهة الحرب النفسية، التي كانت تشكل جبهة فاعلة ومؤثرة في الحرب الفكرية والثقافية إبان عقد الستينات، فكما ان أعداء اليوم يستهدفون عوامل التأثير في الجماهير، في مقدمتها فتاوى المرجعية الدينية، وتحجيم قوة السيل الجماهيري الهادر المدافع عن القيم والارض، فان الاعداء بثوبهم القديم، كانوا يستهدفون المرجعية الدينية نفسها وايضاً الحوزة العلمية وعلماء الدين، لانهم كانوا على خط المواجهة، ولعل أبرز الامثلة على هذا الحضور الفاعل؛ خطباء مثل الشهيد الشيخ عبد الزهراء الكعبي، وايضاً الشريحة المثقفة والواعية المنتظمة ضمن تشكيلات "العمل الاسلامي"، فكانت السلطات الحاكمة في العراق تستخدم سلاح الإشاعة بأبشع ما يكون لإيجاد الشرخ بين العلماء والجماهير، ومن هذه الإشاعات؛ "عمالة العلماء"...! وأنهم مرتبطون بجهات اجنبية، بدعوى أنهم يستمدّون منهم القوة والدعم لتحقيق اهدافهم، وهذا ما كان ينطلي على الكثير ممن يجد علماء الدين في حالة من بساطة العيش وقلّة الامكانيات، والحجم الكبير من الطموحات والاهداف، متناسين او متغافلين عما حققوه من انجازات باهرة للأمة في مواجهتها للاستعمار، واستعادتها كرامتها واستقلالها وعزتها، وهم في ذلك، لا يملكون حتى البيت اللائق الذي يسكنون فيه، فضلاً عن الامكانات المادية، من مال وسلاح وغير ذلك.
أجواء الحرب النفسية في تلك الايام هي التي أرهقت الاذهان وأعيت النفوس من خوض المواجهة ضد الافكار الدخيلة، او على الأقل اتخاذ الاجراءات الاحترازية من التأثر بها والسقوط في شركها، وهذا ما يشير اليه سماحته بأن أجهزة دعاية وإعلام السلطة كانت توحي للناس بأن "واجب الخطيب هو وعظ الناس وإرشادهم فقط، وتعليمهم الاحكام الدينية، ثم ذكر مصاب الإمام الحسين، عليه السلام. وأخذت هذه الفكرة تنتشر في المجتمع، فالناس على دين ملوكهم، حتى وصلت الحالة الى أن ذكر المقارنة بين الدجاج المحلي والدجاج الاميركي، يُعد حديثاً في السياسة..."!
هنا حريٌ بنا أن نبحث عن السبب في تعرض جماهيرنا لسهام الحرب النفسية، او حرب الإشاعة، بهذه السهولة التي نراها اليوم، كما لاحظناها في الأمس؟
ربما نستقي بعض الإجابة من نفس كلام الامام الراحل، بأن "الناس على دين ملوكهم"، وهي مقولة لها مصاديقها، كون الغالبية في المجتمع والامة غير واعية ولا متعلمة، مما يحمّل الشريحة الواعية والمثقفة، وايضاً الجهات المسؤولة في الحكومة الرشيدة، مسؤولية توفير كل وسائل الوقاية والدفاع في هذه الحرب الخطيرة، فكما تحرص الدول في العالم على توفير وسائل الوقاية والدفاع من اختراق الجواسيس وعيون العدو، فتنشئ المعاهد والكليات الخاصة بإعداد ضباط المخابرات، وتدرب الناس على التعامل مع الغرباء والمشبوهين، وكل من يحاول البحث عن المعلومات المختلفة عن البلد، فان الواجب – حقاً- إعداد العدّة لمواجهة حرب الإشاعة والدعاية لتعبئة النفوس وشحذ المعنويات، بإجراءات مختلفة ومتعددة، من توفير المعلومة الصحيحة والتغطية الكاملة لساحة العمليات، والتعامل الاعلامي الذكي مع المعطيات والمستجدات في الميدان، وحفظ القاعدة الحكيمة: "لا كل ما يعرف يقال". يضاف اليها التوجيه الثقافي والمعنوي الذي يجعل القاعدة الجماهيرية تستقي الفكرة والمعلومة من مصادر ذات هدف ومصير مشترك.
اضف تعليق