q

فيما مضى جرى الحديث عن الحالة المؤسساتية في العمل بمختلف المجالات، على أنه الاسلوب الحضاري المنتج، وايضاً المنظم للمواهب والطاقات حسب الاختصاصات، وقد تفوق الغرب في القرون الماضية بفضل العمل المؤسساتي، بينما تقهقر المسلمون لابتعادهم عن هذا الطريق، بسبب غباء الحكام والانظمة السياسية المتعاقبة التي غلّبت كرسي الحكم والامتيازات والمصالح الخاصة على مصير الامة ومستقبلها. فبدلاً من أن تكون هنالك مؤسسات دستورية وأخرى انتاجية وايضاً ثقافية ودينية، صبّ الحكام قدرات وطاقات البلاد والعباد في أجهزة قمعية وأخرى حزبية خانقة.

هذا في على صعيد العمل، وهو ما يجب ان يكون طريقاً ممتداً الى ما لا نهاية، ما دامت حاجة الانسان الى المؤسسات قائمة. أما في ظروف المواجهة والدفاع عن النفس والعقيدة أمام التحديات الخارجية، وايضاً الداخلية- احياناً- فاننا بحاجة الى تحشيد الطاقات الفكرية والعلمية وحتى الفنية، كما تكون الحاجة ماسّة الى تحشيد القدرات العسكرية، من أسلحة ومعدات وعجلات، الى جانب فتح ابواب التطوع لتوسيع دائرة القدرات البشرية في ساحة المواجهة، او ما يسمى اليوم بـ "الحشد الشعبي".

التعدد أم التوحّد...؟!

صحيح؛ هنالك تنوع وتعدد في المؤسسات والتنظيمات، بل ربما يكون هنالك اختلاف، وهو "رحمة" بتصريح النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو علامة "صحّة" في مسيرة الإصلاح والبناء الحضاري الشامل. والصحيح ايضاً؛ انه كلما تقاربت هذه القوى، في امكانياتها المتعددة، ووحدت رؤيتها، وحشّدت قدراتها، في ساحة المواجهة مع العدو، كانت أجدر بتحقيق الانتصار. لان - ببساطة – عندما يكون العدو واحد، يشكل خط مواجهة واحدة، كما نلاحظ ذلك في القوى التكفيرية والارهابية التي ضربت على حين غفلة، كلاً من سوريا والعراق، فان الجهة المقابلة يجب ان تكون واحدة ايضاً.

وقد مضت الاشارة الى حقيقة التعددية والاختلاف غير المناقضة للتوحّد. ففي ظروف، كالتي يواجهها العراق، وايضاً بلاد اخرى، حيث تداهمنا فتنة سياسية وطائفية سوداء، لابد من مصبّ واحد يجمع الطاقات المنتشرة من هذه المؤسسة الثقافية او الدينية، ومن ذلك الحزب والتيار السياسي، او من هذه المؤسسة الاقتصادية وهكذا، لصناعة جبهة موحدة، لها خطاب واحد، وقوة رادعة واحدة. وهذا ما دعا اليه سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- قبل حوالي 35 عاماً، عندما كتب "السبيل الى إنهاض المسلمين"، حيث أشار الى ضرورة "أن تنصهر كل الحركات في حركة واحدة، فما دام الهدف واحداً، وما دامت المشكلة واحدة، فالجميع يشكون من الاستعمار، والاستغلال، والدكتاتورية، والتخلف الحضاري، وما أشبه".

الحاجة الى بعض التضحية

وجود الكيانات المستقلة بإمكاناتها المالية والذهنية، وايضاً علاقاتها في الاتجاهات كافة، يمنحها قوة ومهابة ومكانة في المجتمع والدولة، وهذا لا بأس به، بيد أن ظروف المواجهة والتحدي الماحق ضد الجميع، يحتاج الى شيء من التضحية ونكران الذات، وتغليب المصلحة العامة على التوجهات الخاصة، حتى وإن كانت مشروعة، ومن حقوق اصحابها في الساحة. مثال على ذلك؛ الخطاب الاعلامي في خضم المواجهة التي نعيشها مع ما يُسمى بـ "داعش"، فبات واضحاً المحاولات الرامية لتحجيم "الحشد الشعبي" الذي انطلق، اصطلاحاً لقوة تطوعية وحالة تعبوية من جماهير الشعب العراقي، صنعتها فتوى المرجعية الدينية بـ "الجهاد الكفائي"، ثم تحول اليوم الى رقم صعب في المعادلة.

الامر الذي يتطلب صبّ كل أي نوع من الانتصارات في هذا "الحشد"، وإن كان الانتصار يتم على يد هذه المجموعة او تلك، أو بامكانات هذا الفصيل او ذاك، كون العالم ينظر اليوم الى هذه الفصائل على أنها "حشد شعبي". وكان آخر هذه الانتصارات، القضاء على عزت الدوري، الرجل الثاني بعد صدام. وللعلم فقط، فان القبض على هذا المجرم، حيّاً او ميتاً، يعني تحقيق شرط الجائزة الكبيرة التي حددتها الولايات المتحدة منذ اجتياحها العراق عام 2003، ورصدت للدوري مبلغ 20 مليون دولار على من يأتي به حياً او ميتاً. فما كان يحصل لو أن هذا المكسب سُجل في حساب "الحشد الشعبي" الذي قدم حتى الآن عشرات الشهداء والمصابين في المعارك ضد "داعش" التي كان يقف خلفها الدوري وأعوانه من قادة عسكريين سابقين؟

فلتكن للحشد الشعبي راية واحدة، معروفة للمسلمين وللعالم أجمع، يؤكدون فيها أحقيتهم في قتال التكفيريين وأنصار الفكر الظلامي المنحرف عن الاسلام الحقيقي. وهذه ليست تجربة جديدة او مبتكرة، فهؤلاء "البيشمركة" يمثلون تجربة حيّة امامنا، وهم خليط من مقاتلين أكراد من مختلف الاحزاب والتوجهات، يجمعهم الهدف الواحد والهمّ القومي المشترك، ولذا يصعب تجاوزهم او تحجيمهم، فضلاً عن أنهم يسعون للتوسع والتغوّل على حساب القوات المسلحة العراقية والجيش العراقي في المناطق الشمالية.

وهذا لن يتم بسهولة او من خلال النصائح والدعوات الشفهية لهذا وذاك، إنما يحتاج الامر الى خطوات عملية الى الامام تسندها خلفية ثقافية وفكرية عميقة الجذور تمكّن صاحبها من التضحية بما لديه لصالح الآخر في الخندق الواحد، لذا يرى سماحة الامام الشيرازي أنه من اجل المضي في هذا السبيل "علينا ان نتجاوز عن السيئات، ونتغاضى عن الأخطاء نتناسى المشاحنات...".

اضف تعليق