الحياة مرهونة بالثقافة، فإذا صحَّتْ الثقافة صحَّت الحياة والعكس صحيح، بعضهم يتساءل هل تمتلك الثقافة مثل هذا الدور فعلا، وهل بمقدورها أن تتحكم بطبيعة الحياة سلبا وإيجابا الى هذا الحد؟، لاشك أن الإجابة ستكون مرهونة بالحياة الواقعية التي يعيشها الفرد والأمة أو المجتمع بصورة فعلية، فعندما تكون الحياة ذات إيقاع متطور ومنتظم، وعندما تكون منظومتيّ السلوك والفكر منسجمتين، أحدهما يؤثر في الاخر ويتداخل معه ايجابيا، عند ذاك سوف نلمس لمس اليد التأثير الكبير للثقافة في المجتمع.
الى هذا الحد وربما أكثر يؤثر دور الثقافة على طبيعة حياة الانسان، لذلك لا يخطئ المفكرون عندما يصرّحون دائما قائلين بوضح تام، أن حياتنا المتطورة مرهونة بمدى تطور ثقافتنا، وأن ضعف الثقافة أو خوائها هو خواء لحياة الفرد والمجتمع، والسؤال المهم الذي ينبغي إثارته بجدية هنا، هل نعيش فعلا حالة من الخواء الثقافي، وهل ينعكس هذا الضعف على حياتنا بصورة فعلية، وما هي الشواهد والأدلة التي تثبت ذلك؟.
في الحقيقة نحن لا نستطيع أن ننكر طبيعية حياتنا المتردية في جوانب عديدة، سواءً اذا حصرنا الكلام بالمسلمين او بالعرب أو بالعراق، فهذه المسميات جميعها تعاني من خواء ملموس في السياسة والاجتماع والصحة والتعليم ومجالات الحياة الاخرى، مع بعض الاستثناءات التي لا تداوي جرحاً!!، بمعنى لا يكفي ان تكون هناك دولة اسلامية او بضع دول تعيش بصورة افضل من سواها مقارنة بالدول الاسلامية الاخرى، وإن كانت الامثلة قليلة وشحيحة، نحن نتحدث هنا عن ظاهرة تكاد تكون شاملة، فحياة المسلمين ومنهم العراقيين خاوية.
وعندما نأتي لنتفحص دور الثقافة في هذا الصدد، سوف نلاحظ عجزا وتراجعا كبيرا في هذا الجانب، وهو ما ينعكس بصورة تكاد تكون مباشرة على السلوك والتفكير الفردي والجمعي، وهو ما ينعكس بدوره على جعل الحياة تدور في فراغ، خالية من التطلعات والطموحات التي ترتفع بالانسان والمجتمع الى درجة جيدة من الارتقاء، إن الانسان في بلداننا يشعر بأنه مكبّل بالعجز، ويكاد يفقد الرؤية السليمة للامور، وهو امر يؤثر بصورة مباشرة على حياتنا، ويجعل منها تراوح وتدور في فلك التأخر!.
الثقافة الضعيفة لها دور مباشر في هذه النتائج القائمة على الارض، لأن الثقافة تؤثر في كل شيء ضعفا وقوة، ولعلّنا نرى ونستدل على هذا الضعف من خلال عدم وضوح الرؤية لصناعة ثقافة فاعلة لدى قادة المؤسسات والمنظمات الثقافية الرسمية والأهلية، نحن لا نطرح هذا الرأي من باب التعميم والإطلاق، ولكن واقع حال الثقافة والمجتمع هو الذي يتحدث عن رأينا ويؤكده، لذلك نعتقد أن قادة الثقافة والمثقف نفسه لم يرتقِ الى دوره الصحيح في بناء الثقافة وبناء المجتمع على حد سواء، لأن كلا البنائين مرتبطان مع بعضهما، بمعنى اذا صحّت الثقافة صحّ المجتمع كما سبق ذكره.
لقد بات واضحا أن الفعاليات الثقافية التي نلاحظها هنا وهناك، والتي تقيمها هذه المنظمة او تلك، لم تعد ترتقي الى المهمة الكبرى التي ينبغي أن تتصدى لها الثقافة في بناء وتطوير المجتمع، ولعل اشارتنا هنا الى اقامة المهرجانات الثقافية الخاوية تشكل دليلا على ضعف الادارة وغياب الرؤية للدور الكبير الذي ينبغي أن تنهض به الثقافة!، إن مثل هذه الفعاليات السطحية لا يمكن أن تمثل دور الثقافة الحقيقي والجوهري في تطوير المجتمع.
ولذلك نلاحظ أن هناك من يمارس دور قتل الثقافة عندما يجردها من دورها الحقيقي ويعتمد بديلا خاويا لها، من هنا على النخب الثقافية والمعنية بالثقافة التنبّه الى هذا الجانب، إن اتحادا عريقا كاتحاد الادباء والكتاب العراقيين على سبيل المثال، يشغل نفسه في برامج ثقافية شكلية، ومهرجانات تقتصر على الادباء والكتاب أنفسهم، ويجتر نفسه وافكاره ومشاريعه نفسها في كل شهر وكل عام، إنما يثبت بالدليل القاطع على فشل قيادته في تحقيق الدور الصحيح للثقافة، صحيح أن هذه المنظمة لا تمثل الثقافة بمجملها، ولكنها تمتلك تاريخا مهماً حافلا بأسماء لامعة في تاريخ الادب العراقي والعربي والاسلامي، لقد كان محمد مهدي الجواهري رئيسا لهذا الاتحاد في القرن الماضي عند تأسيسه، وكلنا نتذكر دوره وتأثيره السياسي الكبير في توجيه الجماهير نحو الانتفاض والاحتجاج من خلال اسهاماته الادبية، ومن ينسى تلك القصيدة ذائعة الصيت التي خلقت حساً صادقا وكبيرا ضد الاستعمار، عندما كتب قصيدة في اخيه الشهيد جعفر، عنوانها (اخي جعفر) ومطلعها (أتعلم أم أنت لا تعلم... بأن جراح الضحايا فم)، هكذا كان يتجلى دور الثقافة بصورة فعلية في تأثيره على المجتمع.
أما الآن فهناك إنشغال بالسطحية، وهناك خواء واضح، بل هنا من يقوم بدور سلبي للثقافة، واذا ما بقي الحال هكذا سوف نصل الى مرحلة انقراض الثقافة والمثقف، بسبب غياب التأثير الثقافي في مفاصل حياة الناس، مع أننا نعيش وضعا مأزوما على الاصعدة السياسية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولكننا مع هذه الاوضاع الشائكة، لا نرى ادارة سليمة للثقافة، ولا نرى دورا فاعلا لمنظماتها، الامر الذي يستدعي اعادة النظر في ادارة الثقافة، وأهمية تخليصها من السلبيات التي سبق ذكرها، وهذا لن يتحقق مال لم تغير وتجدد القيادات الثقافية رؤيتها وبرامجها بما يجعلها ثقافة عميقة مؤثرة بالمجتمع، وبعيدة عن الفعاليات السطحية التي لا يمكنها تغيير المجتمع نحو الأفضل.
اضف تعليق