q

جميع الانظمة السياسية التي تفتقد الى الشرعية تحتاج الى عدو داخلي او خارجي يساعدها على البقاء، ويمنحها شرعية متوهمة للاستمرار في الحكم.

لا تستثنى من هذه القاعدة، الدول الغربية منذ العام 1917 وقيام الثورة البلشفية في روسيا وصعود الشيوعيين الى الحكم فيها، والصراع الطويل والمكلف بين نظريتين وما يتبعها من دول، اشتراكية ورأسمالية، مرورا بألمانيا الفوهرر هتلر، وحتى امريكا وحقبتها المكارثية الشهيرة.

في جميع تلك التجارب وغيرها، لابد من عدو متوهم او حقيقي، يعطي الدافع للاستمرار في الحكم من خلال مجابهته في احيان قليلة، والتواطؤ معه في احيان كثيرة.

الانظمة السياسية العربية، ومنذ تحصلها على الاستقلال الصوري وبدايات تشكل الدولة الوطنية، لم تخرج عن هذا النمط السياسي في اجتراح وتشكيل وتكوين وصنع العدو، الذي يقف ضد تطلعات وطموحات الشعب، ويجب تجنيد كل الطاقات لمحاربته.

وكانت اول وسيلة من وسائل المجابهة هي الانقلابات العسكرية التي حفلت بها عديد الانظمة الجمهورية، في ما اختفى هذا النوع من انظمة الحكم الملكية، وخاصة الخليجية، لأسباب قبلية في الدرجة الاولى، اضافة الى تأخر استحصالها على الاستقلال حتى وان بشكل صوري، مع الاخذ بنظر الاعتبار عائديتها وثرواتها الى دول استعمارية فرضت نوعا من الحماية العسكرية عليها.

في العام 1948 ، وعند تأسيس الدولة اليهودية، تداعى العرب لإلقاء اليهود في البحر، لكنهم لم يستطيعوا الالقاء بهم ولا هم يحزنون، وخسروا حربهم الاولى، وكان التبرير يومها، الاسلحة الفاسدة التي ورّدها حماة اسرائيل لتلك الدول.

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومع ازدهار الحركة القومية العربية في التنظير والايديولوجيا، ازدهرت الانظمة التي تحمل ماركة الانقلابات العسكرية، وهي في انقلابها احيانا على شرعيات في الحكم، تتوسل الى اختراع او تلميع صورة للعدو تحتاجه.

كانت يومها اسرائيل هي العدو المثالي لتلك الانظمة، وكان البيان الاول لقادة كل الانقلابات يتحدث عن المؤامرة الصهيونية والامبريالية، وان الانقلاب الذي يحمل عادة تسمية (حركة) او (ثورة) هو لأجل تحرير فلسطين.

في العام 1967 وانكسار الجيوش العربية في ما اطلقت عليه الانظمة الرسمية (نكسة حزيران) كان الاستعداد على قدم وساق لتحرير الاراضي المغتصبة.

في جوانب تلك المعركة المستمرة، وللمحافظة على صورة العدو ماثلة للعيان، ولأجل ممارسة الغسيل المستمر لأدمغة المحكومين، كان الاعلام العربي الرسمي، واشهر مثال له اذاعة (صوت العرب) القاهرية، ومذيعها احمد سعيد، متواصلة في ترسيخ صورة هذا العدو، والويل والثبور منه. هذا العدو الخارجي الذي جندت له الانظمة السياسية العربية كل طاقاتها، فلا تنمية اقتصادية بسبب المجهودات الحربية وتجنيد كل الطاقات من اجل المعركة، ولا اصلاحات سياسية او تبادل في الحكم او تعددية ديمقراطية للأحزاب، بل كنا نسمع عن جبهات لأحزاب يشترط ان يكون العدو الرئيسي لها هو اسرائيل على مستوى الخارج، مع استعداء داخلي ضد بعضها البعض.

كانت التسميات الدارجة تلك الايام للمختلفين، وهو هنا العدو الداخلي، هي اوصاف من قبيل (العميل – الخائن) وهي لاتبقى ضمن حدود التسمية، بل تمتد الى الاقصاء والالغاء والمحاكمة والمطاردة، اذا لم تنته بمصادرة الحياة.

في العام 1977 يزور الرئيس المصري انور السادات اسرائيل، ويلقي كلمته الشهيرة في الكنيست الاسرائيلي، ويعيد الى مصر ارضا محتلة لم تستطع جميع الحروب مع اسرائيل اعادتها، لكن الخطاب القومي وقتها لم يوفر السادات من تسمية العميل والخائن.

بعد أكثر من عقد من السنوات، يمارس العرب لعبة العمالة لإسرائيل لكن هذه المرة تحت شعارات السلام الاسرائيلي الفلسطيني المدعوم من الانظمة السياسية العربية، بدءا من الفلسطينيين والاردنيين والسوريين، ولم ترجع تلك المفاوضات حقا مغتصبا منذ وقتها وحتى الان.

ترافق ذلك مع اختفاء تسميات العميل والخائن، خاصة وان عددا من تلك الانظمة، قد اقامت علاقات دبلوماسية واقتصادية مع العدو الخارجي، الذي كان يراد القاءه في البحر.

من المفارقات العربية وهي تعيش هذا الانفصام، ان البلد العربي الذي احتضن قمة طرد السادات من الحظيرة الرسمية العربية، والذي تحدث عن التضامن العربي المنشود، هو العراق ايام رئيسه احمد حسن البكر، ليكون هو البلد نفسه الذي يحتل الكويت في العام 1990 بقيادة رئيسه صدام حسين، لانه كان يريد ان يجعل من تلك الامارة الصغيرة منطلقا لتحرير فلسطين.

رغم تبدل الاحوال والازمان، لا زالت الانظمة السياسية العربية، جمهورية وملكية، تحتاج الى عدو خارجي وداخلي لبقائها واستمرارها في حكمها لبلدانها.

هذه الايام تبرز ايران كصورة لعدو مثالي، يحل مكان اسرائيل في المشهد العربي، وفي المخيال الجمعي، للعرب والمسلمين.

اذا كانت اسرائيل تدين بدين مختلف، وهي اتية من دول شتى تجمعت في ارض فلسطين، وتأسس على ذلك عدو (ديني – قومي) فان ايران هي الاخرى تختلف مذهبيا هذه المرة عن تلك الانظمة، وهم (فرس اعاجم) ليبدأ التأسيس لصورة عدو (مذهبي – قومي)، يسمح لتلك الانظمة بادراج كل شيعة العالم تحت عباءته، لإعطاء مبرر لاستهدافهم ومحاربتهم في بلدانهم، وجعلهم طابورا خامسا لذلك العدو، في اعادة لترسيمة (العميل – الخائن).

لكن الشيعة في غالبيتهم العظمى يرفضون هذا الالحاق والتنسيب لإيران، لانها بالدرجة الاساس تنطلق من مصالحها القومية واحلامها الامبراطورية، في وقت يميل معظم الشيعة في العالم، ان تكون لهم مصالح وطنية ضمن حدود بلدانهم ومجتمعاتهم.

واي نظرة على الإعلام العربي (الممول سعوديا بالدرجة الاولى وقطريا واماراتيا بالدرجة الثانية – مع اعلام الهشك بشك المصري ) هذه الايام، يستطيع المتابع من خلالها ان يلاحظ هذا الجهد الدؤوب لترسيخ صورة نمطية عن الشيعة، تابعين ومنقادين لإيران، وحتى المختلفين من قادة او مفكرين او كتاب مع الخطاب الرسمي السني، يتم سحبهم الى تلك الصورة، كما جرى مع اوباما على لسان احد الفاعليات في المعارضة السورية (محي الدين اللاذقاني) حيث اعتبره شيعي الهوى، بسبب مواقفه من الازمة السورية، ومع محمد حسنين هيكل، الذي شن عليه هجوما واسعا بسبب اعتراضه على مايجري في اليمن، واعتبار موقفه دفاعا عن ايران لانه كان مستشار اعلاميا للخميني..

 

اضف تعليق