يتخذ النظام السياسي التعددي أهم خواصّه وصفاته من سماحهِ للرأي المعارض بتأشير مواطن الخلل الحكومي، مع تقديم المشورة والنص والمعالجات التي ترشد الحكومة إلى المنهج السليم في معالجة المشكلات التي تواجهها، من هذا التوصيف الذي تعنيه المعارضة في الأنظمة الديمقراطية، لا نرى أي خطر تشكله على السلطة التنفيذية، على العكس من ذلك، تقوم المعرضة بجهد كبير في حماية الحكومة من الضعف والانحدار إلى الأسوأ.
لذلك لا يوجد نظام ديمقراطي مستقر وفاعل في عموم العالم، من دون أن يحتوي على أصوات وآراء وأفكار معارضة له، تهديه أخطائه بصورة مجانية، أما غياب المعارضة في النظام السياسي فهو يدل على فردية ذلك النظام، فيما يدل حضورها على ديمقراطيته، وتقترب هذه المعادلة كثيرا من الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان، ولكن هناك ضوابط دستورية تحكم حركة المعارضة، ليس بمعنى تقويض الحكم وإفشاله، بل بمعنى التصحيح والتوجيه السليم، وهذا ما يسمى بالنقد البنّاء الذي تتصدى له الآراء والأفكار المعرضة من أجل حفظ وضمان حقوق الشعب، وحمايته من مساوئ وأخطار النظام الدكتاتوري.
فالصوت المعارض وما يطرحه من آراء ومواقف قد تكون مختلفة عن المنهج الحكومي، لا تعني أنه يهدف إلى الانقلاب أو تنحية الحكومة، لأن الطرف المعارِض كالطرف الحاكم أو المساند للحكم، كلاهما له مصالح وأهداف يتحرك لانجازها، وكلاهما يحاول أن ينجز هذه الأهداف بأسرع الطرق وأكثرها دقة وضمانا، ولكن المعيار الوحيد الذي يمكنه تفضيل المعارضة على الحكومة، هو أن تكون المعارضة صوتا صادقا ومعبرا عن آمال الشعب وتطلعاته وحقوقه الفعلية المنصوص عليها في الدستور، او تلك التي تكفلها القوانين والسنن والأعراف، أما في حالة عدم تمثيل المعارضة الشعب كصوت حق يطالب بالحقوق والحريات وسواها، فإن صفة المعارضة تنتفي هنا، ويحل محلها صراع الأحزاب والكتل من اجل المناصب والامتيازات وما شابه، وهو ما حدث في تجربة العراقيين الجديد في التعامل مع الحكم، لهذا ربما لا نجد معارضة بالمعنى الدقيق للكلمة في المنهج السياسي الراهن للعراق.
المعارضة بين الترغيب والترهيب
أما بخصوص أسباب نجاح المعارضة، فإنه يعتمد على دورها في تقويم قرارات وتشريعات وأعمال الحكومة، لأن الشعب سيقبل الصوت المعارض إذا كان داعيا للحق ولا يخشى الترهيب الحكومي وسواه، وسوف تنال المعارضة من هذا النوع ثقة الشعب ورضاه، على أن تتحول الأقوال الى أفعال، بمعنى أنّ هناك معارضين للحكومة يعلنون في كل مناسبة او فرصة متاحة عبر الإعلام او سواه رفضهم لمنهج الحكومة واعتراضاتهم على إجراءاتها بخصوص المنهج السياسي والإداري والاقتصادي وملف العلاقات الخارجية وغير ذلك، ولكن ما أن يحصل هؤلاء المعارضون على مغانم كالمنصب أو أموال، حتى تنقلب المعادلة بين ليلة وضحاها، فيصبح الصوت المعارض مساندا للحكومة ويكون الصمت بديلا عن قول الحق.
في هذه الحالة لن تكون المعارضة صادقة في توجهاتها وأهدافها، فتكون شكلية، تبحث عن المنافع مثل الحكومة وأعضائها تماما، وقد حدث مثل هذا الأمر في تجربتنا مع الحكومات العراقية او فيما أظهرته التجارب مع حكومات أخرى، لهذا ليس كل شخص او حزب او كتلة تعد معارضة للحكومة اذا لم تتفق معها، خاصة أننا نلاحظ بوضوح تام أن ظاهرة المقايضة السياسية موجودة وحاضرة بقوة في هذا الخصوص، إذ ثمة أصوات معروفة كانت قد عارضت حكومة المالكي الراهنة، ولكنها بعد أن حصلت على المكاسب التي استقتلت من اجلها تحت عنوان -دفاعا عن حقوق الشعب- نراها وقد لاذت بالصمت وراحت تنعم بالمال والجاه والمناصب، فيما أصابها الخرس التام حيال الأخطاء التي قد تحدث هنا او هناك في إدارة الملفات المتعددة التي تتعلق بحقوق الشعب، وفي هذه الحالة لا يمكن أن تعتبر هذه المعارضة ممثلا للصوت الشعبي الجماهيري المعارِض للسلطة المجحفة بحقه.
أما في النظام الديمقراطي الراسخ، فإن المعارضة تأخذ دورها الصحيح المقوِّم للحكومة، إذ توجد معارضة صادقة ويوجد معارضون لم تستطع الامتيازات إسكات أصواتهم ولم تحد من أفعالهم ايضا، وهم معروفون والتاريخ سوف يذكر ذلك لهم، فيما سينالون على المدى القريب والبعيد ثقة الشعب ومحبته لهم، أما كيفية التعامل الحكومي مع مثل هذه الأصوات الصادقة، فالصحيح أن تتعلم حكوماتنا الراهنة والقادمة الدرس الذي يفرض عليهم احترام صوت المعارضة الصادقة، لأن التعامل النقيض سيؤدي بالضرورة الى تحويل الحكومة الى المنهج القمعي الدكتاتوري الذي لن يستطيع مواصلة الحضور والتأثير في الواقع السياسي لأسباب عدة، أولها أن الشعب العراقي تعامل مع الحكومات المستبدة وخبر أساليبها، واستنكر حضورها وفعلها، وتولدت لديه حساسية تجاه القمع مهما كانت الدوافع او الأسباب التي تقف وراؤه، لذلك فإن أية حكومة لا تحمي حقوق العراقيين لن يكون أمدها طويلا، والمعارضة هي التي يمكن أن تطور العلاقة بين الشعب من جهة والحكومة من جهة أخرى، إذا كانت معارضة نابعة من صميم الشعب ومعبّرة عنه.
التعاطي مع الرأي المعارض
ولكي يكون النظام السياسي مقبولا وضامنا للحقوق وحاميا للحريات، عليه أن يبرهن قبوله بالرأي المعارض له، وبما تقدمه المعارضة من مقترحات وأفكار وخطط تصحيح للحكومة، لهذا على الحكومة أن تقبل الصوت المعارض، إذا كانت تشعر بأنه يمثل بصدق مصالح الشعب وحقوقه، وعليها أن تتعامل مع المعارضة كعنصر مساند لها، من باب الحاجة إلى التنبيه المستمر على الأخطاء وأهمية معالجتها، بدلا من الإيغال في التجاوز على حقوق الشعب، تحت ضغط المصالح الحزبية والفردية وما شابه، وبهذا يصبح الصوت المعارض عامل إسناد للحكومة وليس عامل إجهاض لتوجهاتها ومشاريعها إذا كانت تصب في الصالح العام، لهذا صار من الشروط الأساسية لديمقراطية النظام أن لا يحاصر المعارضة ولا يقصي دورها السياسي.
في خلاصة الأمر ينبغي أن يفهم المعارضون دورهم بالضبط، فالمعارضة لا تعني ولا ينبغي أن تعني، تعويق الحكومة ووضع العصي في عجلات الإدارة الحكومية من اجل إفشالها، بل يجب أن تفهم المعارضة ماهية دورها بالضبط وعليها أن تجنح الى المساندة والتصحيح، بدلا من التعويق الذي لا يصب في صالح الشعب، ولا صالح المعارضة نفسها، وهذا أيضا لا يعني الصمت على الفساد أو المفسدين والأخطاء الحكومية الأخرى، على أن لا تُطلَق الأحكام جزافا، ولا تكون التصريحات التي تطلقها المعارضة كاذبة أو غير دقيقة، لأنها في هذه الحالة ستبتعد بالمعارضة عن دورها الصحيح، وسوف تظهر المآرب واضحة للصوت المعارض، وهي الحصول على الأموال أو النفوذ وما شاكل.
لذلك في الأنظمة الديمقراطية ذات التجارب المتميز، سوف يقع الصوت المعارض تحت طائلة القانون، إذا ثبت أنها خارج الدور المعارض، وأنها تبتغي الحصول على منافع مالية (مناصب) أو مكتسبات تخص النفوذ والقوة، وهذا يتعارض مع الدور الذي ينبغي أن تنهض به المعارضة، فكلما كان تأشير الأخطاء الحكومية من قبل المعرضة دقيقا وصادقا، ستنجح في دورها هذا، وسف تكون محط تقدير واحترام الشعب، وسوف يكون دورها داعما للحكومة من باب الرشد والنصح الذي تقدمه المعارضة لها.
اضف تعليق