بون شاسع بين الأحادية والتعددية، فالأخير يعتمد تعدد الرؤى والأفكار والمناهج والحلول والتعاطي المفتوح الآفاق مع الإشكالات التي يعاني منها الفرد أو المجتمع، وفي التعددية توجد خيارات لا يمكن حصرها في اتجاه محدد، بل هنالك فرص كثيرة متاحة للتجريب في المجالات المختلفة، ومن ثم اختيار ما هو مناسب منها في السياسة والإدارة وشؤون الحياة الأخرى، أما المنهج الأحادي فهو أساسا مصنوع من فكر ثابت الرؤية ومحدد بإطار ومسار واحد لا أكثر، هنا لا توجد خيارات، ولا آراء متنافسة، ولا توجد فرصة الاختيار، على العكس من التعددية التي تمنح الفرص الكفيلة بالوصول إلى الاختيار الأفضل.
أما عندما يكون النقاش حول العراق، شعبا أو حكومات، وما هو المنهج الذي يناسبه، فقد جرب العراقيون حكومات أحادية وذاقوا الأمرّين، فكانت النتيجة طغيان وقمع وظلم، وفكر أحادي مفروض بالقوة على كل مفاصل الحياة، فمنذ أن نشأت الدولة العراقية الحديثة في بدايات القرن العشرين، كان الشعب العراقي يعاني من تأزّم الوضع السياسي في ظل الوجود الانكليزي، وبعد رحيله أيضا، حينما بدأت حقبة الحكم الجمهوري، حاملة معها صراعات دموية على السلطة، فتعاقب العسكر على حكم العراقيين في انقلابات عسكرية دموية، أدارت شؤون العراق السياسية بسلوك فردي تسلطي، ادخل البلد في دوامات مدمرة من الاحتراب الداخلي والخارجي أيضا، مع الانعدام التام لفرص الاختيار في الشؤون السياسية أو سواها، فمنهج الدولة وفكرها وسياساتها محكومة بمنهج أحادي نابع من فكر السلطة تحديدا.
وقد جرّب العراقيون أنظمة سياسية أحادية التفكير في السياسة والإدارة ومنهج تسيير الحياة العامة، فتعرض الشعب إلى أبشع أنواع القمع، والتكميم، والإجبار مع انعدام أية فرصة على استخدام المنهج التعددي حتى في ظل انخراط أحزاب متعددة، فقد ظهر ما يسمى بالحزب القائد الذي مارس الأحادية بأقصى درجاتها، وتم إقصاء التعددية على نحو تامـ وكان السبب الرئيس الذي يقف وراء صنع الأزمات السياسية في العراق، يتمثل بالسلطة الفردية والحاكم الأوحد او الحزب الأوحد، حيث تغيب التعددية على نحو شبه تام، وتزدهر الفردية وتنمو روح التسلط والقمع والإقصاء والنفي، ليحضر الحاكم الفرد والحكم المستبد، مع غياب او ضمور كبير في المنهج التعددي الذي لا سبيل سواه، لخلق التوازن الصحيح بين القوى السياسية كافة، من اجل حفظ الحريات والحقوق لمكونات الشعب كافة.
ومما لا يمكن أن تنساه الذاكرة الشعبية العراقية، ولا التاريخ العراقي، نزعة التفرد والأحادية سواء بالنسبة للحاكم الفرد، أو حزبه الذي يسيطر على السلطة، وقد عاش الشعب العراقي في ظل قمع حكومي متواصل، من لدن أنظمة الحكم التي تعاقبت على حكمه، وبلغت درجة القمع الى أقصى المستويات، وذلك في العقود الأخيرة قبل التغيير الذي حصل في نيسان 2003، ومع الدخول في المرحلة السياسية الجديدة قبل عشر سنوات من الآن، كانت جل التطلعات تذهب الى تأسيس وترسيخ دولة قوية قائمة على توازن القوى والتعددية، تحكمها سلطة مؤسسات دستورية قوية، يتم من خلالها حماية الحريات، وتنظيم صلاحيات الحكم، وتغليب منهج التعددية على حساب المركزية في الحكم، نظرا للفوائد الكبيرة التي يمكن أن يجنيها الشعب من هذا النوع من الأنظمة ذات الآفاق المنفتحة المتعددة.
ومع اشتداد القبضة الحديدية للحاكم الأوحد، والحزب القائد، كانت السلبيات والأزمات تجتاح حياة العراقيين بلا هوادة، وقد شهد العراق نوعا من الفوضى السياسية في اوائل سنوات التغيير بعد نيسان 2003، لدرجة أن الحكم فقد هيبته نتيجة لضعف مؤسسات الدولة فضلا عن ضعف القانون، وازدهرت التكتلات الفردية وظهرت الميلشيات، ولكن مع مرور الوقت بدأت السلطة تستعيد شيئا من قوتها وهيبتها، ولكن ثمة ما هو اخطر من الضعف في السلطة وإدارة الدولة، حيث بدأت تظهر علامات ومؤشرات تؤكد العودة الى الفردية، على حساب المنهجية السياسية التعددية، وهناك أدلة واضحة يعكسها المشهد السياسي العراقي الراهن، يشير بعضها إلى الذهاب نحو الفردية على حساب التعددية من لدن مكونات أساسية للشعب العراقي، ونعني بذلك الطبقة السياسية تحديدا، حيث تنحو بعض الأحزاب إلى تعظيم قادتها، متجاهلة جميع الأخطار التي يمكن أن يتمخض عنها المنهج الأحادي المقيت، وانعكاسه على طبيعة الحياة التي ستبقى أسيرة الفكر الواحد والمنهج الذي لا يقبل وجود الآراء والمناهج المنافسة له.
لنأخذ مثلا الصراع الماثل أمام الجميع بين الكرد والمكون العربي الشيعي، فالكرد يتجهون بقوة نحو تكريس السلطة الفردية ممثلة بعائلة البرزاني الحالي الذي خلف مسعود، حيث يسعى هو وحزبه الى قيادة الكرد في الإقليم نحو السلطة الفردية، بحجة مقارعة الحكومة الاتحادية المركزية التي يقودها رئيس، ولعل العزف على الوتر القومي وحماية الحقوق الكردية، تسهل مهمة نيجرفان البرزاني وحزبه لتأجيج مشاعر الكرد، ونسيانهم لمخاطر العودة الى تركيز الحكم والنهج الفردي في إدارة شؤونهم، وقد لا يعون الخسائر الكبيرة التي قد يتعرضون لها في حال انسلاخهم من العراق القوي الموحد الذي يضمن لها حدودا جيدة من الحرية في ظل نظام سياسي يتحرك نحو التعددية بخطى حثيثة.
الشيء نفسه يقوم المكون الشيعي بحسب مراقبين، حيث الاتجاه نحو تكريس الحكم الأحادي والعودة الى الحزب القائد، وهو أمر يحمل معه الكثير من المخاطر، أدت في السابق الى معاناة هائلة قهرت العراقيين عقودا متعاقبة، وهكذا نلاحظ سعي الأقطاب القوية من مكونات الشعب العراقي بقياداتها السياسية والحزبية، تسعى إلى الفردية متجاهلة المخاطر الجمة في المنهج الأحادي، وهي تطرح مبررات كثيرة لكي تستقطب تأييد الجماهير لها، وأهمها العزف على الوتر الشوفيني وزرع المخاوف من الآخر، لكن بالنتيجة لا يمكن أن تصب مثل هذه المسارات في صالح الشعب العراقي ولا الدولة العراقية.
وحتما أن الأحزاب والكتل التي دخلت في الميدان السياسي منذ عقد ونصف تقريبا، تعرف تمام المعرفة، مساوئ الفردية في الحكم، وعلى العكس من ذلك تزدهر فوائد كبيرة لمنهج التعددية في إدارة البلاد، لذا مطلوب أن تتنبه القيادات والمكونات السياسية والعرقية، الى خطورة تذوب منهج المشاركة والتعدد وترسيخ المنهج الأحادي السلطوي بحجج وتبريرات لا تصمد أمام الواقع خصوصا أن الشعب جرّب الحكومات الفردية وذاق ويلاتها، فالعراقيون تذوقوا مرارة الحكم الفردي التسلطي وعانوا من حكم الحزب الواحد، لذا على الجميع التحرك معا نحو ترسيخ منهج التعددية من اجل تحقيق توازن القوى، وبناء الدولة المدنية القائمة على قوة ورصانة المؤسسات المستقلة التي تدير شؤون البلاد، بتوازن يحكمه الدستور ويضبط إيقاعه المنهج التعددي.
اضف تعليق