إذا وُصِف كائن ما، بشريٌّ كان أو غيره، بأنه نمطي، هذا يعني أنه ينشط في حياته وفق وتيرة واحدة، والنمطية في التفكير والسلوك مبعثها البيئةُ الصغرى، (الأسرة)، والمحيط المجتمعي الذي يؤثر في الفرد ويتأثر به، ومن أخطر الأمراض، النمطية والسكون والاجترار والمراوحة في المكان نفسه من دون أن يحصل تقدم ولو لخطوة واحدة نحو الأمام، فالمجتمع النمطي يمكن أن يتقدم ولكن حركته في التقدم تكون إلى الوراء، أي أنه يتقدم إلى الخلف، وبالتالي يزداد بلادةً وضموراً وتأخّرا.
ولو أننا استقصينا المعنى اللغوي لمفردة غَبَاوة كما ورد في معجم المعاني الجامع، فالغباوة اسم، مصدر غَبيَ، فإذا قيل، أَظْهَرَ غَبَاوَةً، أي بَلاَدَةً، جَهْلاً وَقِلَّةَ فِطْنَةٍ، وحين نقول يَا لَهَا مِنْ غَبَاوَةٍ، تعني، يَا لَهَا مِنْ غَفْلَةٍ، وفلانٌ ذو غباوة، أي تُخفى عليه الأمور، و غَبيَ، بمعنى غبِيَ عن الشيء، اغْبَ، غَبَاءً وغَبَاوةً، فهو غَبِيٌّ والجمع، أَغبياءُ.
إذاً البلادة هي وليدة الغباوة، وكلاهما يورثان الكائن النمطية في الفكر والتشابه الممل في الحركة، فالسكون والثبات والسبات، مفردات تحيل إلى النمطية في حياة الفرد والجماعة، بمعنى أن السكون والثبات إذا طبع تفكير الإنسان وسلوكه، فإنه سيكون نمطياً لا يميل إلى التجديد والتغيير، بل يمقت أي اتجاه أو محاولة تقوده الى التغيير أو تدفعه صوب التقدم من حالة أدنى إلى حالة أعلى، وهذا ينطبق على المجتمع أيضا إذا كانت مكوناته - الأفراد والجماعات- تميل إلى السكون والنمطية.
ولذلك يصف العلماء المختصون بعلم الاجتماع، المجتمعات النمطية، بأنها ثابتة قارّة ساكنة بطبيعة الحال، وهي بالطبع تتكون من أفراد وجماعات لا تتحلى بملَكة التغيير، ولا تذهب إلى التجديد ولا يوجد لديها أي اندفاع في هذا المنحى، بل ولا ترغب في تحديث حياتها، لذلك يبقى مثل هذا المجتمع يراوح في مكانه من حيث الوعي والفكر وطبيعة السلوك، حتى لو توافرت له جميع العوامل والعناصر التي تؤهله للتحديث والانتقال من الثبات والنمطية إلى التغيير والتحديث، والسبب وجود المعرقل الأقوى ألا وهو النمطية والبلادة.
وربما تنزع طبيعة بعض الكائنات للدعة والراحة، والميل إلى السكون، وإظهار كراهية لأي جهد كان، عقلي أو عضلي، لكن الوعي بالمشكلة المسماة بالغباوة والنمطية ينبغي أن تدفع بالإنسان إلى البحث عن البديل وضرب السائد من الأفكار والسلوكيات التي تنعدم فيها الحداثة، وقد وعتْ المجتمعات النازعة إلى التطور هذه الظاهرة، وخطورتها على السلوك الفردي والجمعي، وفهمت أن النمطية ستقتل روح الإبداع لدى الأفراد والجماعات أيضا، لهذا تحركت النخب في تلك المجتمعات نحو تحريك ملَكَة التغيير، لأنها أيقنت أن ضعف هذه الملكة أو غيابها، يعني ثبات المجتمع على وتيرة واحدة من الفكر والفعل، فالمطلوب إيجاد البديل الأفضل لكي تتجنب الأخطار التي تفرزها الغباوة والسكون.
التحذير المستدام من الارتخاء
فكما ذكرنا فيما تقدّم، لا يصح الاستسلام للدعة والراحة، ولا يجوز تجنب التعب والمشقّة، ومن لا يعي ويصرّ على التغيير، سوف يكون فردا أو مجتمعا تقليديا قارّا وجامدا، وسيبقى يراوح في المكان نفسه والدرجة نفسها من الوعي والتفكير والسطحية، ولهذا لجأ قادة المجتمع إلى التغيير ليصبح ملكة تطبع سلوك المجتمع ككل، وليصبح مجتمعا متطورا ومواكبا لكل ما يستجد في مجالات الحياة كافة، بعد أن يغادر الحالة النمطية مما هو سائد من الحركة والفعل والتفكير.
وغالبا ما يأتي التحذير من النمطية كي يفهم الفرد أو الجماعة، خطورة الوضع على الراهن والقادم من طبيعة الحياة، ولابد أن يفهم الجميع بأن الفرد أو المجتمع التقليدي سوف يبقى متمسكا بنمط واحد من العيش، فتغيب عنه روح الإبداع كليّا، وتأخذ حياة المجتمع وتيرة واحدة تنطوي على الضمور والشكلية والكسل واللامبالاة، هنا لابد أن يتحرك الفرد وعموم القوم نحو التغيير، كونه السبيل الوحيد للارتقاء بطرائق العيش والتفكير، وهنالك سبل إجرائية عديدة للقيام بهذه المهمة وتنفيذها عملياً بأفضل ما يمكن، تحقيقا للنتائج المستهدَفة.
علما أن المسعى الفردي والجماعي للتغيير، غالبا ما ينطلق من رغبة ذاتية أولا، فالإنسان الذي لا يجد في نفسه رغبة للتغيير لن يتغير، وعلى العكس، فإن من يتحرك بحثا عن وسائل وأدوات وطرائق التغيير نحو الأحسن، سيجدها، وسوف تحيل حياته من الثبات والسبات إلى الحركية والإنتاج الأفضل، حتى النص القرآني الكريم ينص على هذا المعنى كما ورد في الآية الكريمة من سورة الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فإذا يكفّ العقل عن إيجاد الوسائل والبدائل المناسبة لمغادرة النمطية والغباوة المهيمنة على العقل، فلن يكون هناك أي تقدم للمجتمع.
مطلوب البحث عن سبل دقيقة لمواجهة السكون والمراوحة في النقطة ذاتها، وحتما هنا جملة من الخطوات في هذا المنحى، مع العلم أن هناك جملة من العقبات تعترض حياة الفرد والمجتمع وتمنعه من التغيير، أهمها غياب هذه الملكة أو ضعفها في الذات الفردية والجماعية، وبالتالي لا نجد رغبة نحو التحوّل من الثبات إلى الحركة، فيمضي المجتمع في طريقة عيش رتيبة روتينية مملة لا تنطوي على أي نسبة من التجديد والإبداع، ولابد أن يتحرك المعنيون (المؤسسات التربوية والثقافية والدينية وغيرها)، إلى درء خطر الغباوة والنمطية، ودفع الفرد والمجتمع إلى البحث عن سبل وطرائق التغيير، ومساعدته علة نبذ حالة الكسل والخمول التي تطبع شخصيته، وتجعله قادرا على التجديد ومتطلعا نحو حياة أكثر جمالية وتوازن.
إجراءات الالتحاق بالركب المتقدم
في الخلاصة، هنالك إجراءات وخطوات من شأنها أن تساعد على التخلص من الغباوة التي تهيمن على الفرد والمجتمع، وتنتشله من النمطية، وتدفع به الى التغيير الجوهري النازع إلى التجديد وخلق فرص الحياة الأكثر حيوية وقدرة على تحريك ملَكات الإنسان ومواهبه وطاقاته، لتجعله فاعلا مبتكرا وقادرا على الاندفاع بقوة نحو منصة المعاصرة والتطور المستدام، ومن هذه المقترحات والخطوات التي تساعد على انتشال الفرد والمجتمع من الغباوة والنمطية ما يلي:
- علينا أن نبدأ بالإنسان طفلا في حاضنته التربوية الأصغر (الأسرة)، لنبذر في تربة عقله حب التطور وعدم الاستكانة لغباوة المحيط الاجتماعي وبلادته.
- لابد أن تكون هناك حملة لتأسيس الجمعيات والمنظمات الأهلية التي تأخذ على عاتقها، نشر الرغبة بالتجديد ومغادرة الأوضاع والأساليب النمطية.
- أن تقوم المؤسسات الحكومية المعنية بوضع برامج معدّة من لجان مختصة لتحفيز الفرد على التغيير والتجريب وفق أسلوب التدريج ووسائل الترغيب المناسبة.
- للمؤسسات الأهلية والمنظمات المدنية دور مهم في زرع روح التغيير وتنشيط ملكة التغيير لدى الأفراد، من خلال التخطيط والتنفيذ الجيد لبرامج تُعنى بهذا الأمر.
- أن يتحرك الفرد ذاتيا نحو التغيير ومغادرة النمطية والسكون، وليبدأ ذلك بتجارب صغيرة أولية وسيقطف ثمار التغيير في المدى القريب حتما.
- أن تصبح ملكة التغيير منهج حياة للمجتمع على نحو عام، ويمكن أن يتحقق هذا بإقامة حملات إعلامية ثقافية فنية تحث على روح الإبداع والتجريب وتحفّز على نبذ الارتخاء والخمول والبلادة.
- أن تتسم المبادرات الحكومية والأهلية الهادفة إلى زرع روح التغيير لدى الفرد، بالتحفيز والتشجيع المعنوي والعيني، لآن التحفيز شرط من شروط الإقبال على التجريب والتجديد.
في الختام نحن نعيش في عصر أسرع من (السرعة) نفسها، في كل مجالات الحياة، ومن لا يواكب هذه الحركة والتجديد والاندفاع المذهل نحو التغيير، سوف يسبقه الآخرون بمسافات بعيدة، يصعب عليه قطعها واللحاق بهم، فالصحيح أن تكون هنالك مواكبة جادة وحثيثة لجميع المستجدات والتطورات التي تسعى إليها وتجتازها الأمم المتقدمة، وما علينا سوى تحفيز الإرادة الجمعية وتهيئة السبل اللازمة، ومن ثم الانطلاق في أنشطة منتظمة متواصلة لرأب الصدع وردم الفجوة (العلمية) الفاصلة بيننا وبين الركب المتقدم.
اضف تعليق