تُشبَّه الموهبة بالبذرة التي تُزرع في الأرض، على أمل أن تمنح عطاءها لمن يرعاها ويقوم على سقيها وتسميد تربتها وما الى ذلك من خطوات عملية تضمن نمو النبتة، وكثير من المختصين أكدوا على أن الموهبة لا تختلف كثيرا عن البذرة، فما أن تظهر بوادرها عند شخص ما، حتى تصبح الحاجة الى رعايتها، العامل الأول في نموها وتطويرها وتصاعد مواصفاتها نحو الأحسن، وفي الغالب يكون هناك عنصر خارج الذات هو الذي يكتشفها.
ولو أننا طبقنا ما جاء في أعلاه على المواهب البشرية، فإن الأب أو الأستاذ أو المعلم، أو العالم، أو رب العمل، كل هؤلاء غالبا ما يكونوا هم المكتشفين لمواهب الأفراد، ويسعون الى رعايتها وتطويرها على أمل الإفادة منها مستقبلا، فالتجربة تثبت بما لا يقبل الشك، أن المجتمع بلا مواهب سيكون ضعيفا، لا يمكنه مواكبة المجتمعات المتقدمة، وهناك معادلة لا تقبل الخطأ، كلما كان الاهتمام بالمواهب مدروسا متواصلا عاملا بلا توقّف، كان هذا المجتمع يسير حثيثا نحو التطور، ولكن هنالك شرط مهم هو أن لا تكون الرعاية بمبادرة من السلطة أو النظام من أجل مساندته وتأييده.
فلا خير في رعاية حكومية يكون لها مقابل سلطوي يدعم رأس النظام، هذا التوجّه لا يمكن أن يخدم الفرد ولا المجتمع، فالمجتمعات الواعية تسعى الى تطوير قدراتها الذاتية على مدار الساعة، وتضع لهذا الهدف ميزانيات مالية ضخمة، فضلا عن التخطيط المسبق، والتنفيذ الدقيق للخطط الموضوعة من لدن خبراء معنيين بتطوير المجتمع وهناك أساليب كثيرة ساعدت الشعوب والدول على بلوغ هدفها، فأصبحت في قمة هرم التطور، تقود العالم علميا وتقنيا، كما هو الحال في مجتمعات الدول القوية بأنظمتها السياسية الديمقراطية ونسيجها الاجتماعي.
حاصل مجموع القدرات الفردية
وقد أسهم سعي الدول الديمقراطية في رعاية المواهب واستخدام أسلوب التشجيع والمكافآت ليس من أجل تحقيق منفعة سلطوية، لهذا صارت تتمتع هذه الدول بمراتب عليا في سلّم التطوّر، حيث تأتي الدول بعدها في قائمة التدرّج والسعي نحو الارتقاء، ومن بين أرقى الأساليب التي لجأت إليها تلك الدول، تطوير المواهب الذاتية عبر الإشادة بها وإطراءها وتقديم المكافآت والجوائز والشهادات التقديرية لها، فضلا عن الترويج الإعلامي الذي يجعل الإنسان الموهوب أكثر ثقة واندفاع لاكتشاف الجديد في مجالات البحث وسواها، وما أن تستمر الدولة والمنظمات المختلفة بهذا المنهج، حتى نجد القدرات الفردية في أعلى مستوياتها في المجالات الحياتية المتنوعة، ويكون حاصل مجموع هذه القدرات محصولا مضافا الى قدرات الدولة كلها.
وهناك تخوّف من أسلوب الهبات والمكافآت وحتى الجوائز إذا كان تصب في صالح السلطة، فقد كان هذا الأسلوب سائدا في العراق، ولكن للأسف أخذ مسارا حكوميا سلطويا، يصطف الى جانب السلطة السياسية، وقد لاحظنا هذا (عبر الوثائق التاريخية) لدى جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم دولة العراق منذ تأسيسها في 1921، بمعنى لم يكن منهج التشجيع شائعا لصالح الإنسان الموهوب بقدر ما كان يصب في تعضيد الفكر السياسي للسلطة، ولهذا كانت الجوائز والمكافآت وخطوات التشجيع غالبا ما يشوبها الريب والفساد، فتدخل المصالح والصفقات والمنافع وما الى ذلك من حالات فساد في هذا الجانب، فتقتل الهدف النبيل لمكافأة المتميزين ورعاية مواهبهم وتطوير طاقاتهم.
ومن باب أولى أن تتكرر هذه الحالة لصالح السلطة، من أي نوع كانت، فليس مسموحا أن يتم استغلال الموهوبين عبر تقديم المكافآت ومن ثم توظيف مواهبهم لصالح السلطة بأنواعها كافة، فهل يجوز لأب أن يرعى مواهب أولاده طمعا في زيادة سلطاته وما شابه، أم تأتي المساندة في سياقها التربوي الطبيعي، لذلك ينبغي أن نحذر في المرحلة الراهنة من الانزلاق في هاوية التشجيع مقابل دعم السلطة ومساندتها حتى لو كانت قراراتها خاطئة، لأننا في هذه الحالة سنعود الى المربع الأول، وسوف نقضي على المواهب المتفردة التي يتم إقصاءها بعيدا عن مواقعها الصحيحة، لأنها لا تمسح أكتاف المسؤولين الحكوميين وما شابه ذلك مما ينتمي الى ظاهرة التملق والتزلف المرفوضة، التي يعتمدها أصحاب المواهب الضعيفة على حساب أصحاب الكفاءات المشهود لها بالقدرة على التميز والتطور المستمر، ولابد هنا من التأكيد على عدم الوقوع في فخ السلطة أياً كانت أساليبها وترغيبها.
النأي عن دعم السلطة الفاشلة
بالطبع علينا الاستفادة من الأخطاء التي حدثت في السابق، وعدم تكرارها، والنأي عن دعم السلطة الفاشلة، بالمقابل مطلوب من المسؤولون ورؤساء الدوائر والمصانع والمؤسسات الإنتاجية أن يسعوا الى أسلوب التحفيز، بكل أشكاله، وأن يرعوا المواهب المتميزة، لما لهذا الأسلوب من تأثير وفاعلية كبيرة في تطوير وتحديث الإنتاج على مختلف الصعد، فالمواهب والطاقات الجيدة يمكن تحريكها وتنشيطها من خلال التحفيز المتواصل، وينطبق هذا الأمر على جميع المخلصين والموهوبين في دوائر الدولة والمعامل ومؤسسات التعليم والصحة وسواها، ويعطي منهج الرعاية الدائمة والتشجيع والمكافأة نتائجه المثمرة في الحال، لذا من الحاجة بمكان أن يصبح هذا السلوك والمنهج، حالة معتادة وسائدة في نسيجنا المجتمعي، لأننا ننتمي الى مجتمع مقبل على تحولات كبيرة ونمو متصاعد في مجالات الحياة المختلفة، وهذا المستقبل الواعد يجب أن يدفع بالموهوبين وأصحاب المهارات والقدرات النادرة (فكرية أو مادية)، الى الحذر من السقوط في فخ مكافآت السلطة ليس السياسية وحدها وإنما كل أنواعها.
وقد يتساءل أحدهم عن الكيفية أو آلية العمل التي تقي الفرد من السقوط في أحابيل السلطة، هذا الأمر بالطبع يحتاج الى جانبين، الأول شخصي أو ذاتي حيث يسعى الفرد لتحصين نفسه من الترغيب المدبوغ بالخديعة، فيرفض كل الامتيازات والعطايا إذا كان يشوبها شك أو شبهات، لذلك نرى أن تقوم الجهات المعنية الحكومية الرسمية والمؤسسات والمنظمات الأهلية المعنية، بوضع خطط سليمة ودقيقة ومعمول بها في جميع أنحاء العراق، تكفل قضية التكريم والتشجيع والمكافآت العينية أو سواها، لكل من يخلص في عمله بجدارة واستثناء، مع مراعاة الحالات المتميزة والمتفردة في عموم المجالات، وأن يصبح هذا الأسلوب منهجا راسخا في المجال الحكومي والمدني، والمجتمعي عموما، على أن يكون هناك حذر دائم من السقوط في فخ السلطة، لكي لا يُتَّهم الفرد على أنه داعم للنظام السلطوي المتنمّر.
الخلاصة من هذا الموضوع، نؤكد أن نظام المحفزات ومنح المكافآت أثبت أنه قادر على تطوير المواهب والمهارات، لكن هناك عوامل أخرى داعمة، وينبغي توافرها حتى نضمن تطويرا مؤكَّدا للفرد وقدراته، منها التدريب المستمر، والإطلاع على نفس التخصص وما يستجد فيه من تطوير في المجتمعات المتقدمة، مع وضع حد فاصل بين السلطة ومآربها من جهة وبين إغرائها للموهوبين المتميزين، حتى لا يسقطوا في فخاخ وحبائل السلطة المتنمّرة التي لا ترحم، ولا يهمها أصلا تطور المجتمع أو الفرد على حد سواء.
اضف تعليق