بعد الانتصارات المتصاعدة التي أعادت للعراق جانبا من هيبته الإقليمية والدولية، تصاعد الأمل أيضا في بناء مؤسسات الدولة المستقلة، وبالتالي ترميم الهيكلية الإدارية للدولة العراقية على نحو يجعل منها نموذجا فعليا للتعددية والتنوع والارتقاء من خلال التمسك بالدستور، وإعطاء الفرصة لبناء دولة تمتلك قدرات حاسمة على حماية الحريات والحقوق، وخصوصا حماية الرأي، وحرية الإعلام، فالعراق اليوم نموذجا للحرية في المنطقة الإقليمية، لكن يحتاج بقوة الى بناء المؤسسات المستقلة التي تدير شؤون الدولة بانتظام ودقة وعدالة تحميها من الضعف والانهيار.
إن الأمل يتجدد بعد أن أعادت قوات الحكومة الاتحادية مدينة كركوك وكل المناطق التي يطلق عليها تسمية (المتنازع عليها) الى السلطة الشرعية للحكومة الاتحادية، ففي غضون ساعات وأيام قليلة أعادت القوات العراقية البطلة بكل تشكيلاتها وصنوفها، هيبة الدولة وفرضت قوة الدستور والقانون على كركوك مثلما الحال مع المحافظات الأخرى بما في ذلك محافظات إقليم كردستان، فجميع المحفظات العراقية وفقا للدستور خاضعة دون أدنى شك لقرارات الحكومة الاتحادية.
من هنا لا ريب في أننا نؤسس ونعبر الى مرحلة عراقية جديدة، ينبغي استثمارها وخصوصا في مجال بناء المؤسسات مع الأهمية القصوى في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، حيث تدخل دولة العراق المؤسساتية، مرحلة جديدة من الاختبار وهي مرحلة ما بعد استعادة كركوك تحت سلطة الحكومة الاتحادية، وتحاول السلطات الثلاث، التنفيذية، والتشريعية، والقضائية - بعد أن ساد مبدأ الفصل بينها- أن تجدد نفسها، من حيث العنصر القائم بالعمل أولا، ومن حيث كيفية الأداء ثانيا، والمقصود بالعنصر العامل هو المسؤول، وزيرا كان أو وكيلا أو مديرا عاما.
والكل يعرف ويعلم أن تنفيذ مهمات السلطة التنفيذية في الغالب تكون بحاجة الى جانبين، الاول هو عنصر العمل كالوزير بالنسبة للسلطة التنفيذية، والنائب بالنسبة للسلطة التشريعية، والقاضي بالنسبة للسلطة القضائية، أما الجانب الثاني فهو كيفية اداء الوزير والنائب والقاضي لعمله، وهذا يتعلق بالدربة، والكفاءة، والمهارة التي يتحصّل عليها هؤلاء، مدعومة بالاخلاص الوطني، الذي يتوسمه الجميع بعناصر السلطات الثلاث، مع حتمية التركيز على استقلالية المؤسسات الدستورية كونها تمثل جهات المراقبة والحساب العادل للأداء.
ضرب مؤسسات الدولة الدستورية
ومن خلال قراءة مسيرة الحكومات المتتالية منذ نيسان 2003، لا يمكن لأحد أن ينكر مسلسل الفشل والنكبات التي أصابت العراقيين خصوصا في المجال الأمني، وضعف وتدهور الاقتصاد، وهدر المال العام، ونشر الأمراض الاجتماعية والجهل والفقر على نطاق واسع، مع السعي المحموم للمستفيدين من ارتباك الأوضاع، على مواصلة محاولاتهم المستميتة لإضعاف الحكومة الاتحادية، وتقويض القانون، وضرب مؤسسات الدولة، ومحاصرة قوة الفصل بين السلطات الدستورية، وجعل مؤسسات الدستور أكذوبة وألعوبة بأيدي الطارئين على السياسة.
لذلك مر العراق بأكثر حلقات الضعف السياسي خطرا وحرجا عبر تأريخه، وتعرض لخطر التقسيم مرارا، وكانت الحرب الأهلية على الأبواب ثم أنها حدثت بالفعل، وحوصر العراقيون في أرزاقهم وتم تدمير اقتصادهم ومصانعهم ومزارعهم ونشرت الفوضى في جميع مفاصل الحياة، فضاعت سلطة القانون، وتراجعت فرص بناء دولة المؤسسات، وسيطرت على القرار أحزاب فاسدة وشخصيات أكثر فسادا، وانحدر العراق الى الوراء يوما بعد آخر.
فانهار البلد في حزيران 1914، عندما هجم بضعة مئات من الدواعش على الموصل منطلقين من الحدود السورية، لتسقط الموصل في ساعات بعد أن انهارت فرق عسكرية كاملة مدججة بأنواع السلاح من أكبر المناشئ وأكثرها إتقانا، ولكن سقطت عدة محافظات ووصل داعش الى حدود بغداد بسبب الفساد الإداري وضعف إدارة الدولة، وقد خسر العراقيون الكثير من الدماء والأنفس والأموال لكي يصححوا هذا الخطأ العظيم، واحتاجوا الى ثلاث سنوات من القتال والنزيف المستمر والخسائر المادية الكبيرة، لاستعادة ما فقدوه في ثلاثة أيام.
إن درس سقوط المدن العراقية في قبضة داعش، ودرس طرده بكل صفحات القتال المشرفة، تدعو الطبقة السياسية الى تغيير تعاملاتها كافة، والاستمرار بالتقدم الى أمام، مع الأهمية القصوى في استغلال أجواء التحرير لتطبيق إستراتيجية جديدة لبناء الدولة المؤسساتية التي يمكن أن تنتمي في سنوات قليلة الى العالم المتقدم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا.
ما هي طبيعة هذه الإستراتيجية الجديدة، إنها باختصار ووضوح تتعلق باستقلالية المؤسسات الدستورية، وتعميق مبدأ الفصل بين السلطات، وتعزيز المنهج الديمقراطي للدولة، ورفض الانفراد بالسلطة، وتقديم الضمانات الكاملة للمواطن العراقي، بخصوص ضمان حرياته وحقوقه وتعليمه على كيفية أداء واجباته التي نص عليها الدستور أيضا، فهذه الوثيقة لا تنحاز الى طرف مقابل الآخر، وهي لا تفضل المواطن على السلطة ولا العكس، وإنما مهمتها تنظيمية بالدرجة الأولى على وفق قواعد وثوابت ومبادئ العدالة والتعددية والحرية والإنصاف وتطبيق القانون.
الحفاظ على الثروة النفطية للعراق
ومن الأمور التي لا يوجد جدل حولها، أن نجاح السلطة التنفيذية في مهامها، سيساعد على نجاح السلطتين التشريعية والقضائية في مهامها ايضا، لأن ثمة ترابطا عضويا بين هذه السلطات من حيث التنسيق والتعاون، على الرغم من اعتماد مبدأ الفصل بينها، وبالتالي لابد أننا سنشهد تحسّنا في مضمار بناء دولة المؤسسات، وهو ما ينبغي أن يسعى إليه الجميع، كونه النظام الدستوري الذي يحمي حقوق الجميع، وينظم واجبات الجميع، ويسهم بمضاعفة الخطوات الصحيحة التي ستساعد على جعل العراق دولة مؤسسات دستورية، تحترم التنوع والتعايش، وتحمي وتتيح الحريات الدستورية للجميع، بما في ذلك كركوك ومكوناتها الاجتماعية التي تتوزع على الكرد والعرب والتركمان وبعض الأقليات الأخرى.
ومن الأهمية بمكان أن تنتظم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في ضوء الدستور حصرا، ولا عودة الى أساليب التراخي والمجاملات التي كانت تحدث سابقا على حساب الدستور وقيام السلطة الاتحادية بتطبيق الدستور كما هو، لاسيما فيما يتعلق بالثروة النفطية، والمعابر الحدودية والتجارة الخارجية والمطارات والتأشيرات، وحركة الأموال من والى العراق، والقنصليات والعمل الدبلوماسي عموما، وشركات الهاتف النقال وعقودها ومقراتها، على أن يتم تنظيم ذلك وفق أسس ومبادئ وقرارات تشريعية دقيقة يتم وضعها من لجان متخصصة، مع أهمية التركيز على تطبيقها بما يتفق مع الدستور، فلا نريد أن نعود مجددا الى مشاكل بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وعلى الأخيرة أن تستفيد من الدرس الراهن، وأن تتعامل مع الحكومة الاتحادية في بغداد، على أنها سلطة دستورية لا يجوز إهمال أوامرها الدستورية كما تفعل الحكومات المحلية في جميع المحافظات.
وختاما لقد قيل ربّ ضارة نافعة، فقد تكون سياسة الإقليم الخاطئة، فرصة لإعادة تقييم وتقويم العلاقة بين الطرفين، ومعالجة المسارات الخاطئة التي استمرت منذ نيسان 2003 والى الآن، ومن الممكن جدا أن تكون عملية (إعادة كركوك) الى الحاضنة الدستورية الأم وهي (الحكومة الاتحادية، نقطة بداية لتغيير سياسي مهم ومغاير وناجح، يُسهم بطريقة فعالة وحاسمة في بناء دولة المؤسسات العراقية القوية.
اضف تعليق