بعد عقود من الفردية والمركزية السلطوية، حصل العراقيون في ما يُشبه المعجزة على تغيير سياسي في الحكم، أتاح لهم هامشا من الحرية في إدارة الدولة ومؤسساتها وفي بعض الحقوق، لكن برزت مشكلة خطيرة هي حالة الانفلات وضرب الضوابط السارية وعدم الانصياع للقوانين، حيث لم يفهم الكثير من أفراد الشعب والعاملين في السياسة والمنتمين للطبقة السياسية في العراق ماذا تعني المركزية، إنها بالطبع لا تعني الانفلات.
إنما تعني المركزية (أسلوب إداري يؤدي إلى تجميع السلطات بيد عدد محدود من الأفراد في المنظمة). هذا معنى المركزية في المنظمة، أما معناها على مستوى الإدارة العامة هو (أسلوب من أساليب نشاط الدولة يؤدي إلى تجميع الأمور الإدارية بيد الوزير والعاملين معه مع عدم استقلال الوحدات الإدارية في مجال اتخاذ القرارات الإدارية منها بعيداً عن السلطة المركزية في الأقاليم ببعض النشاطات الإدارية حسب توجيهات الحكومة المركزية).
بالتالي هناك صلاحيات ممنوحة للمحافظات والأقاليم تجعلها قادرة على إدارة نفسها بحرية أكبر، فاللامركزية تنظيم إداري يعد من أهم مبادئ حكم الأكثرية التي تقوم عليها الديمقراطية، وهي نقيض مفهوم المركزية. وقد جاء في تعريف اللامركزية بأنها (درجة عدم تركيز السلطة، أي تشتت السلطة وتوزيعها بين الأشخاص والمستويات الإدارية المختلفة في المنظمة أو على مستوى الدولة).
ويتضح مما تقدم أن مصطلح اللامركزية يرتبط ارتباطاً مباشراً بالمركزية بحسب المختصين، وان كلا المفهومين يوضح درجة التفويض، ويمكن تصور هذين المصطلحين على أنهما نهايتين متعاكستين لمحور التفويض حيث يشير إلى أن اللامركزية تدل على أقصى تفويض للأنشطة الوظيفية ومن صلاحية اتخاذ القرار للمرؤوسين، في حين تدل المركزية على عدم وجود التفويض. ويتخذ التنظيم الإداري في الدولة الحديثة صورتين هما المركزية واللامركزية، وهما مظهران يعكسان طبيعة النظم السياسية والاقتصادية. وعلى الرغم من تعارضهما النظري فإنهما متكاملان، ولا يمكن تصور قيام اللامركزية إلا في كنف المركزية.
تجربة الحكم الجديد
ولنأخذ على سبيل المثال النظام السياسي الراهن في العراق، فهناك حكومة اتحادية (مركزية) مقرها في العاصمة بغداد، وتوجد لديها وزارات عديدة مختلفة المهام، ترتبط بها عدد من الوزارات تتوزع على الاختصاصات المتنوعة، وفي النية نقل صلاحيات هذه الوزارات الى الحكومات المحلية تبعا لما ورد في الدستور العراقي الدائم، وقد بوشر بالفعل نقل صلاحيات بعض الوزارات الى الحكومات المحلية، فعلى سبيل المثال قامت وزارة المالية بإجراء من هذا النوع ونقلت صلاحياتها الى الحكومات المحلية تطبيقا لمبدأ النظام اللامركزي المشار إليه في الدستور كما أسلفنا الذكر.
ولكن مع الرغبة بهذا الأسلوب من أنظمة الحكم والتمسك بالنظام اللامركزي، ظهرت حالات انفلات كثيرة رافقتها مخاطر تهدد حياة أفراد الشعب ومصالحه المختلفة، ولا شك أن العراقيين الذين جربوا ويلات الأنظمة العسكرية الفردية، لا يمكن أن يقبلوا بالعودة الى هذا النوع من الحكومات، فمن اكتوى بنيران القمع والتكميم والتعذيب ليس كمن عاش في كنف نظام لا مركزي يمتلك شرعية السلطة من أصحابها وهم أفراد الشعب.
ولنأخذ مثالا تجربة الحكم الجديد بالعراق بعد عام 2003 وحتى الآن ولنأتِ لدراسة هذه المرحلة الجديدة التي مضى على عمرها ما يقرب من 14 عاما، ولنحاول أن ندرس هذه المرحلة ونستطلع محاسنها وأضرارها، خصوصا أننا في طور بناء دولة مدنية يديرها نظام سياسي لا مركزي، يمتلك كل محاسن هذا النوع من الأنظمة حتى يكون بمقدوره تعويض الشعب العراقي عمّا تعرض له في الحقب السياسية الفاشلة على أيدي الحكام الأحاديين في إطار الأنظمة العسكرية أو حتى الملكية.
إن مشكلة النظام الراهن في العراق، تتمثل في صدمة التحول المفاجئ من المركزية الى عكسها، فقد اعتاد الشعب في السابق نظام حالات القمع والسكوت والرضوخ لإرادة الحاكم العسكري، مكتفيا بأقل الحقوق، وعندما تحول الحال فجأة وصار كل شيء مباحا للعراقيين في ليلة وضحاها، خرج المارد من القمقم، وانفلت أيما انفلات، فانتشرت الفوضى في كل مجالات الحياة العراقية، (السياسية، والاقتصادية، والإدارية، والمالية، والاجتماعية).
وأخطرها حالات الانفلات الأمني في العاصمة والمحافظات الأخرى، وصولا الى الخطر الأعظم باجتياح تنظيم داعش الارهابي للعراق من الشمال والغرب واحتلاله محافظات ومدن ومناطق واسعة تم استرجاعها بشق الأنفس وبتقديم دماء وشهداء كرماء بأعداد كبيرة دفاعا عن الوطن.
لقد رافقت عملية التغيير السياسي منذ 2003 والى الآن حالات إيجابية كثيرة نتيجة لاعتماد النظام اللامركزي، ولكن لدينا اليوم مشكلة عصيبة وخطيرة جدا تتمثل بما يدور حاليا في المحافظات الشمالية من العراق، ونقصد بذلك الشعب الكردي الذي ينتمي الى العراق أرضا وتاريخا، فقد أعلنت قيادة الإقليم عزمها على اجراء استفتاء حول استقلال الإقليم عن العراق، ورافقت ذلك تداعيات خطيرة وإن كانت في بدايتها، لذلك من غير المعقول أن حالة الانفلات وعدم الالتزام بالدستور ستؤدي الى عواقب وخيمة، ولا يستبعد مراقبون متابعون للأحداث نشوء احتراب داخلي يأتي على الأخضر واليابس.
توقّع قيام حروب طاحنة
فهل يجوز أن تكون حصيلة النظام اللامركزي نشوء حالة حرب طاحنة بين أبناء البلد الواحد، وهل هذه هي نتيجة التجربة السياسية الجديدة؟، أسئلة كثيرة تُثار حول هذا الموضوع الخطير، وعن توقيته في هذه المرحلة الحرجة التي يستعد فيها الجيش العراقي بكل تشكيلاته لإخراج داعش الإرهابي من مدن العراق كافة والى الأبد مع إمكانية التفرغ الى حل جميع القضايا الحساسة ومنها ما يتعلق بمطالب الأخوة الكرد بعد أن يستتب الأمن في عموم البلاد.
إن اللامركزية لا تعني الفوضى، ولا يقصد بها رفض الانصياع للقوانين السارية والتشريعية منها، ولا يمكن فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، بل ينبغي أن تسود لغة الحوار، وتحكيم العقل، والابتعاد الكلي عن أسلوب التصادم وسفك الدماء، ويمكن الجلوس الى طاولة واحدة تجمع الفرقاء جميعا، ويتم في هذه الطاولة مناقشة جميع الأمور الحساسة وفق ما جاء في الدستور وبنوده، ولا يوجد سبيل آخر لمعالجة هذا الوضع الخطير.
وحري بكل الأطراف العراقية أن تستذكر تجارب الماضي البعيد والمنظور والقريب، فأين كان العراقيون وكيف أصبحوا اليوم، ولماذا إطلاق التصريحات النارية التي تعد بمثابة صبّ الزيت على النار، وإذا ما حدثت الحرب بين أبناء الوطن الواحد لا سمح الله، من هو المستفيد أولا؟، وهل غابت العقول الحكيمة الى هذا الحد؟، ألم يتعلم العراقيون من دروس الماضي، ثم أليس عليهم أن يبحثوا عن الأسباب والجهات التي تدفع باتجاه التصادم بين العرب والكرد وهم أبناء العراق الواحد؟.
لا شك أن هنالك دول وقوى مختلفة معادية للعراق ولها مآرب وأطماع هي التي تغذي مشكلة التصادم بين أبناء البلد الواحد، وذلك حتى تخلو لهم الأجواء لنهب وسلب ما يروق لهم من ثروات وأموال مع أنهم لم يقصرّوا في هذا المجال، كذلك هنالك جهات سياسية تسعى للاستفادة من هذه الورقة من أجل الانتخابات القادمة، لهذا مطلوب من الكرد والعرب، من القيادات والنخب وعامة الشعب، التنبّه الى هذا الواقع الخطير وعدم الانزلاق الى كارثة الحرب.
وعلى جميع المكونات العراقية بلا استثناء، أن تبتعد عن حالة الانفلات بحجة الديمقراطية والحرية، فهي لا تعني عدم الالتزام بالقوانين أو الدستور، لهذا يجب على العراقيين (جميع المكونات، العرقية، الدينية، الاثنية، المذهبية، العشائرية وسواها)، أن يلتزموا القوانين السارية ويبتعدوا عن الفوضى والانفلات.
اضف تعليق