شأنها شأن السلع الاستهلاكية التي تعجّ بها اسواقنا، فهي جميلة المظهر، زهيدة الثمن، – احياناً- توفر الوقت والجهد على المستهلك، اذ ليس عليه سوى اخراج بعض النقود من الجيب للحصول على مبتغاه خلال دقائق، من طعام لذيذ، وحتى ماء عذب...! أو ملبوسات ومفروشات، بل وحتى اللوحات الفنية التي تحمل آيات قرآنية يزين بها البعض جدران بيته او مكتبه.
ولهذه الظاهرة ابعادا اقتصادية واجتماعية واضحة لسنا بوارد الخوض فيها، فقد تحدث عنها كثيراً دعاة الاستقلال والاكتفاء الذاتي، بيد أن الملاحظ اليوم هو "تعليب" من نوع جديد يعصف بالمجتمع والامة، متمثلاً في الافكار الجاهزة الوافدة من الخارج بوسائل وطرق متعددة. واذكّر – بدايةً- أن المشكلة ليس مع المنشأ والجهات المصدر للأفكار، فهو شأنهم ومن حقهم تسويق افكارهم وما توصلوا اليه من نماذج وخيارات لحياة الانسان، وليست هناك قوة عسكرية او تهديد بالاعتقال او النفي لمن لا يتبنى هذه الفكرة او تلك. إنما نحن المعنيون بالامر، والنظر في عوامل استفحال هذه الظاهرة الموجود اساساً منذ عقود طويلة من الزمن، وطرق الحل والخلاص.
حصول التقاطع الفكري بين هذا وذاك، وجملة من الاسباب النفسية التي تثير الخصال غير الحميدة، مثل الكبر والغرور والاعتداد الزائد بالنفس وغيرها لدى النخبة المثقفة، تضاف اليها حالة اليأس والاحباط، تشكل منظومة واحدة تبعد الانسان عن هويته وانتمائه، بل تجعله سليب الهوية الثقافية، فيجد ضالته الوحيدة فيما يقرأه ويراه ويسمعه مما يصدر من الآخر، حتى وإن كان يدعو الى افكار بعيدة كل البعد عما يعيشه هو على ارض الواقع.
مثل ان الانسان هو المسؤول عن تصرفاته، ولا دخل للآخرين به، والاستغناء عن التراث والتاريخ، كونه "حديث عن الاموات"، وغيرها، وهذا ما ينبهنا اليه سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه القيّم "نحو يقظة اسلامية"، حيث يشير بوضوح الى وجود ظاهرة الاقبال الشديد على الافكار المعلبة والجاهزة، فيما يدعو في مكان آخر الى بعث الحياة في الارضية الثقافية، وفي مرحلة لاحقة محاولة انتاج الفكر والارتقاء في مدارج العلم والمعرفة، وبالنتيجة ازالة كل عوامل التخلف والشعور بالضعة امام الآخرين، لمعالجة هذه الظاهرة، بمعنى أن القضية بحاجة الى تضافر الجهود بين الجماهير والنخبة المثقفة، لا اعتماد احدهما على الآخر، او إلقاء المسؤولية من هذا على ذاك، كما يحصل الآن.
هنالك خطوات على الطريق عديدة، منها ما يشير اليه سماحة الامام الراحل بدعوتنا الى "فهم العالم فهماً دقيقاً، بانه بدونه يكون التأخر، والفهم ميزان العمل، فكما التاجر اذا لم يفهم السوق، يخسر تجارته، وكذا الطالب الذي لا يفهم الدرس يتأخر...". وهذا يتم من خلال تبادل الافكار والآراء ومتابعة التطورات من مصادر متعددة، و"بعد كل ذلك يحتاج الى الابداع في كل الامور والمراحل، دون الركون الى التقليد الجاف للأساليب، واذا مارس الانسان تفهم العالم، صارت له ذهنية خلاقة توجب الرؤية وسبق الزمن".
اما على صعيد النخبة، فإنها تتحمل قسطاً كبيراً من مسؤولية الحدّ من حالة الاستلاب الثقافي الذي طالما تتحدث عنه، وبما ان الوقوف بوجه الاستيراد بحاجة الى انتاج، فان الفكر والثقافة بحاجة الى بناء جديد، وربما الى إحياء وإعادة تقويم، بمعنى حاجتنا الى المفكر البنّاء،
"فالمفكرون والبناة هم الذين يتقدمون بالشعوب والبلاد الى الامام"، كما يقول سماحة الامام الشيرازي. وهنا تحديداً؛ يمكن ان نلتمس نقطة الالتقاء بين النخبة والجماهير في عملية النهوض الثقافي الجديد، فعندما نتحدث عن بناء فكري – ثقافي، فهذا يعني الالتصاق اكثر فاكثر بالواقع، وهذا يذكرني بحديث احد الكتاب المفكرين الذي وصف المثقف الناجح بمثل التُربة، كلما كانت اكثر انخفاضاً كانت اقرب الى المياه وعناصر النمو والحياة، فتخرج نباتاً ربما يكون شجرة باسقة متينة، مترامية الاغصان، وكلما كانت اكثر ارتفاعاً كانت أقرب الى الجفاف، وإن تمخضت عن شيء، فربما يكون عوداً رفيعاً سريع الانكسار.
ان قسطاً كبيراً من حالة التبعية الى الخارج فيما نشهده من مظاهر التبعية الثقافية في مجالات عديدة من الحياة، يلقيه الناس باللائمة والمسؤولية على النخبة المثقفة واحياناً على علماء الدين او الخطباء لانهم لم يبلورا الصورة النموذجية البديلة، قبل الحديث عن الحالة الراهنة. بيد ان هذا لا يعفي النخبة المثقفة التي تنتمي الى "المجتمع الاسلامي" إن صحّ التعبير من مسؤولية المشاركة في بلورة وصياغة النموذج الأكمل والاحسن، والاكثر توفراً على عناصر النجاح والفائدة للامة بما يجعلها في مصاف الأمم المتقدمة والمتحضرة.
اضف تعليق