الطبقية في المجتمع العراقي لم تغب عبر التاريخ، على الرغم من السمة الريفية التي تطبع العراقيين من حيث البيئة والتكوين الثقافي والسياسي وأسلوب الحياة، ومع مرور الأجيال، تشكلت طبقتين أساسيتين، في عصر الإقطاع حيث السلطة الاجتماعية والمالية والحكومية تركّزت بأيدي رؤوس الإقطاع في المجتمع الريفي، وتكونت ما يمكن أن نطلق عليه (الطبقة الثرية المتحكمة)، والطبقة الأخرى هي طبقة الفلاحين الذين كرّسوا حياتهم وأسرَهم في خدمة طبقة الإقطاع ومالكي مساحات الأراضي الزراعية الهائلة، ولم تكن هناك بحسب المصادر طبقة تتوسط الطبقتين العليا (الإقطاع) و (الدنيا ) الفلاحين.
وبحسب أحد الكتاب بدأ تاريخ ولادة الطبقة الوسطى في العراق مع ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وشهدت توسعا مطردا، حيث شكلت بحسب تعداد 1977 حوالي (35%) من سكان المدن و(22%) من أجمالي السكان، وتضم (المهنيين والأطباء والمحامين والمهندسين والمدرسين وضباط الجيش وموظفي الخدمة المدنية وأساتذة الجامعات والمستويات الوسطى في القطاع التجاري)، فيما عرَّف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الطبقة الوسطى بكونها الطبقة التي تجلس في وسط الهرم الاجتماعي، وهي في الأحوال كافة مجموعة واسعة من الناس انبثقت في المجتمع الحديث وحسب المفهوم الاقتصادي الاجتماعي، لتؤدي مساهمة اجتماعية ـ اقتصادية، وهي تقع بين الطبقة العاملة والطبقة العليا الثرية. وان المقياس المشترك لهذه الطبقة هي راس المال البشري ويتم التعامل معها بكونها راس مال ثقافياً.
وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 1921 انبثقت الطبقة البورجوازية التي كانت في الغالب مشغولة بجمع ثرواتها وزيادة أرباحها و"سمسرة" الاقتصاد لمصلحتها على حساب جيوب غيرها، أما الطبقة الدنيا والمتردية اقتصادياً، فتكاد تنحصر همومها اليومية في تأمين لقمة عيشها لاستمرار حياتها، مما يبعدها عن التفكير بهموم الوطن الوسطى والكبيرة.
من الديمقراطية إلى الطبقية!
مع تقادم العقود وتعاقب الحكومات من العهد الملكي الى الجمهوري، بدأت تتناوب الطبقات الاجتماعية مواقعها، فتارة تنتعش في مرحلة ما، وفي أخرى تتدهور وتميل الى الذبول، خصوصا في ظل أنظمة الاستبداد، فقد تكونت طبقة حاكمة ثرية وأخرى معدمة، وكانت الطبقة الوسطى تتراوح بين الوجود والضمور أو الضعف، وتعود الأسباب الى هذا التذبذب الطبقي المزمن الى الصراع على السلطة بالدرجة الأولى، ومحاولات الأنظمة العسكرية المستدامة لتكريس السلطة واستعباد الشعب، وصولا الى المرحلة التي سميّت (بالديمقراطية أو التجربة الجديدة)، بعد الأحداث السياسية في نيسان 2003، وكان الأمل معقودا على هذه المرحلة الجديدة بتكريس عصر الديمقراطية وتقليص الفجوة الواسعة بين الطبقتين الثرية والفقيرة عبر إنعاش الطبقة الوسطى ومنحها القدرة على خلق التوازن المجتمعي في عصر الديمقراطية الجديد، فماذا حدث بالضبط بعد ذلك؟.
ما أن بدأت مرحلة الديمقراطية وهشمت القوت الأمريكية ركائز الدولة السابقة، حتى هبّت موجات كبيرة من الطبقة الفقيرة على وجه الخصوص لتقتحم مؤسسات الدولة ومعاملها ودوائرها ومصانعها وحتى مستشفياتها وربما مدارسها، والقصور الرئاسية، والمتاحف، والمناطق الأثرية، في موجات هائلة من النهب والسلب، بحيث أظهرت وسائل الإعلام موجات النهب وهي تنقض على الأماكن الغنية بالأموال والمواد الثمينة، وهناك قصص مثيرة عن الهجوم على البنك المركزي رغم تحصيناته والهجومات المتكررة على المصارف الحكومية، حتى بلغ الثراء لدى بعض الأشخاص والعائلات كبيرا، واستمرت موجات التجاوز على المال العام شهورا تلو أخرى، بحيث أدى ذلك بحسب المتابعين في نشوء طبقة ثرية مفاجئة أو غير محسوبة، وتدفق المال بقوة إلى التداول التجاري والاقتصادي ولكن بصورة غير منظّمة.
وقيل بحسب المراقبين أن الطبقة الفقيرة أو الطبقة الأدنى، سعت بقوة للسيطرة على مراكز القوة والمال والسلطة في محاولة للتعويض عن الحرمان والحيف الذي لحق بها، وبالفعل صعد الى قبة البرلمان والى الكابينة الحكومية أعداد غفيرة من الطبقة الفقيرة، ولا ضير في ذلك طالما أن الأمر يتم وفق ضوابط تقود البلد الى شواطئ الأمن والاستقرار عبر نشر الديمقراطية واعتماد النظام الانتخابي الحر للوصول الى السلطة وليس عبر القوة أو تدخل الجيش والقوات العسكرية والاستيلاء على السلطة عبر الانقلابات كما كان يحدث سابقا.
هل تم إلغاء الطبقة الفقيرة؟
وبدأت بالفعل بوادر مرحلة جديدة، عندما قرر بريمر الحاكم الأمريكي المعروف أن يحول السلطة الى العراقيين فقام بتأسيس مجلس الحكم الذي تعاقب عليه شخصيات عراقية كل شخص يقود العراق لمدة شهر، ثم تم تنظيم دورة انتخابية نيابية وتشكيل أول مجلس نواب وأول كابينة حكومية، لتبدأ مرحلة الديمقراطية التي تأمل فيها العراقيون خيرا وتعويضا لهم عمّا لحق بهم من فقر متعمد وحرمان وإقصاء وتشريد طال الطبقة الفقيرة في معظم الأحيان، وقد جاء الآن موسم التعويض التام، وتقليص الفوارق الطبقية، ونشر الديمقراطية فكرا وسلوكا، وإعادة الحياة الى الطبقة (الوسطى) الفاعلة، وإلغاء الطبقة الفقيرة بشكل كلي بعد أن صارت الثروات والأموال العراقية بأيدٍ أمينة كما هو مأمول ومتوقَّع.
فماذا حصل بعد ذلك، وماذا يخبرنا المشهد الآني حول الديمقراطية والطبقية في العراق؟، في الحقيقة لم يكن العراقيون يتوقعون ما حدث لهم خصوصا فيما يتعلق بإلغاء الطبقة الفقيرة، ذلك أن الذي حدث هو زيادة نسبة الفقر بحسب بيانات حكومية أصدرتها وزارة التخطيط في أكثر من سنة متعاقبة، وتشير الأدلة الرقمية الوثيقة أن الطبقة الحاكمة هي الأكثر ثراء من بين العراقيين ويقول المختصون، في غضون عشر سنوات تكونت لدينا طبقة جديدة قفزت من الفقر الى الثراء الفاحش ولم تنتعش الطبقة الوسطى كما كان مأمولا لها، فيما بقيت الديمقراطية تراوح بين التجريب والتخريب، ولم تفرز قواعد ثابتة تحكم اللعبة السياسية من أجل حمايتها كما يجري في معظم الدول ذات الأنظمة السياسية الديمقراطية.
إن ما حدث في العراق، ليس انتقال الى عصر جديد من الانفتاح السياسي، وكان من الممكن أن نحقق هذا الهدف لو أننا اتبعنا الخطوات المنضبطة للولوج الى السلوك الديمقراطي المنظّم والمنضبط وفق قواعد سليمة، ففي الحقيقة كان المخطط أن يضرب العراقيون (عصفورين بحجر واحد)، الأول تحقيق الديمقراطية والثاني يحدث في نفس الوقت من خلال إنعاش التوازن الطبقي وإلغاء الفقر وتحجيم الثراء الفاحش، مع ضخ الدماء الجديدة في جسد الطبقة الوسطى التي تعَدّ العمود الأساس أو المرتكز الأهم للمجتمع.
في الخلاصة بتنا اليوم نعاني من ضعف الديمقراطية وانتعاش الطبقية، في ظل تضخم طبقة حاكمة ثرية حصلت على ثرائها على حساب حقوق الشعب، ما يعني تدهور المنهج الديمقراطي للدولة المدنية القوية التي تعد حماية حقوق المواطن من أهم سماتها وصفاتها الجدية، لكن ما حدث هو انتقال مستغرَب وغير مقبول من (الديمقراطية الى الطبقية)، من خلال تكبير الطبقة الفقيرة، وتكريس ثراء الطبقة الحاكمة، وهذا نوع من الطبقية التي أساءت للديمقراطية، وقد تكون سحبت البساط من تحت أقدامها!.
اضف تعليق