عندما نسلط الضوء على التاريخ السياسي القريب، بداية من نيسان 2003 سنلاحظ إجراء عدة دورات انتخابية نيابية ومجالس محافظات، ومعظم هذه الدورات اعتمدت نظام "سانت ليغو" وهو طريقة لتنظيم الانتخابات تم ابتكاره عام 1910 بحسب موقع وكيبيديا، وهذه الطريقة تقلل من العيوب الناتجة عن عدم التماثل بين عدد الأصوات المعبر عنها وعدد المقاعد المتحصل عليها، وهذا العيب الذي تستفيد منه الأحزاب الكبيرة على حساب الأحزاب الصغيرة.
وقد اعتمد نظام "سانت ليغو" المّعدل في توزيع المقاعد النيابية في العراق، ففي البرلمان العراقي وفي جلسته، الـ 33 التي عقدها مجلس النواب يوم 4 / 11 / 2013، صوّت على الفقرة رقم (14) المتضمنة طريقة توزيع المقاعد على القوائم المتنافسة ضمن قانون الانتخابات العراقي، اعتماد نظام "سانت ليغو" ومما يذكر ان هذا النظام كان قد اعتمد في توزيع المقاعد في انتخابات مجالس المحافظات والأقضية والنواحي.
واليوم يتكرر الجدل نفسه بين الأحزاب والكتل السياسية حول هذا النظام واحتساب نسبة 1.9، بدلا من 1.6، وقد أثارت هذه النسبة خلافات واسعة بين النواب داخل البرلمان، حيث تعترض الكتل الصغيرة على اعتماد نسبة 1.9 لأنها سوف تحرم الأحزاب الصغيرة من أية فرصة للمشاركة في صنع القرار، وتؤكد أن الـ (الحيتان) وهي تسمية تُطلَق على الأحزاب الكبيرة، سوف تستأثر بالسلطة وتمنع الكتل والأحزاب الصغيرة من الحصول على أية فرصة للمشاركة أو الاعتراض على طريقة إدارة البلاد.
وقد أعلنت بعض التجمعات السياسية المستقلة تخوفها الشديد من اعتماد هذا النظام الانتخابي بسبب حرمانه للأحزاب الصغير من مشاركة الأحزاب الكبيرة في السلطة، وذهب بعضهم الى إجهاض المشروع الإصلاحي برمته بعد التصويت النيابي على اعتماد نظام سانت ليغو وفق نسبة 1.9، فيما دعا السيد مقتدى الصدر الى مظاهرات وتجمعات حاشدة لرفض هذا التصويت ومنع الكتل والأحزاب الكبيرة من إجهاض مشروع الإصلاحات الذي بقي حبرا على ورق حتى هذه اللحظة.
عدم الشعور بصعوبة المرحلة
أما رأي الكتل والأحزاب الكبيرة بحسب بعض المنتمين لها من النواب، فإنهم صرحوا في بعض وسائل الإعلام بأن تقليص نظام سانت ليغو الى نسبة 1.6 سوف يضر بالعملية السياسية ويمنح أحزاب صغيرة فرصة تعكير صناعة القرار في مجالس المحافظات، وهو رأي يرفضه المنتمون الى الأحزاب والتكتلات السياسية الصغيرة، وهكذا يستمر الجدل بين النواب والساسة تحت قبة البرلمان أو خارجها، لكن النقطة الجوهرية التي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها، تتمثل بالمخاطر الكبيرة التي تحيط بالعملية السياسية الحالية وتعرضها للانهيار مع احتمالية كبيرة لإدخال العراق في نفق مظلم ربما لا يخرج منه مطلقا.
أهمية وإحراج وحساسية هذه المرحلة تأتي من جدية هذه المخاطر المحيطة بالبلاد، وأوضاعها السياسية التي لا تريد الكتل والأحزاب السياسية الكبيرة وحتى الصغيرة أن تتعامل معها بالجدية التي تتناسب مع الخطر المتمخض عنها، خصوصا بعد أن قطعت هذه الأحزاب وهذه الطبقة السياسية مرحلة زمنية قاربت العقد والنصف تقريبا، من دون أن تفلح في إنتاج نظام سياسي يجنب البلاد حالة التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بطبيعة الحال، حيث يعترف العاملون في السياسة أن هذه الطبقة فشلت في التأسيس لبلد مستقر قوي متقدم وبنية اقتصادية صلبة تتناسب والموارد الهائلة التي يمتلكها.
في المقابل أنتجت هذه المرحلة طبقة من الفاسدين والمفسدين استطاعت أن تشرعن الفساد وتجعله شبه مقبول ومنتشر في عموم مؤسسات الدولة بمختلف مهماتها ووظائفها، فإضافة الى شيوع النظام الإداري البيروقراطي هناك هدر كبير في المال العام، وهناك تخبط كبير في إدارة الموارد، فيما انشغلت الأحزاب والكتل السياسية في ترميم وتعضيد مصالحها، وصراعها على المناصب الحساسة وجمع المال والقوة، وكل من هذه الأحزاب والكتل ترى أنها تستحق كل ما تحصل عليه، وهذا يزيد من فداحة الصراع بينها لينعكس على الشعب والدولة في صيغة خسائر كبيرة قد يصعب تعويضها أو معالجتها في الزمن المنظور.
بروز الطبقية الجديدة
وهكذا سنتوصل الى رأي قاطع مفاده أن الكتل والأحزاب الكبيرة على وجه الخصوص تغامر للدخول في منحدرين كلاهما أكثر خطورة من الآخر وهما:
المنحدر الأول: عدم تبلور رؤية سياسية تنتهي الى تأسيس وتطوير نظام سياسي ديمقراطي تعددي، يضمن الحرية لجميع العراقيين، ويجنبهم شر الدكتاتورية، ويبعد عنهم شبح الجوع والحرمان الذي عانوا منه على مدار عقود طويلة على يد أنظمة عسكرية فردية دكتاتورية حرمت العراقيين من التمتع بمواردهم ومن العيش في حياة كريمة يستحقونها بجدارة.
المنحدر الثاني: خسارة الطبقة السياسية نفسها فرصة بناء حضورها السياسي على الوجه الأمثل، ووضع الركائز والقواعد والثوابت الدستورية التي تنظم العمل السياسي وتقوي التجربة الجديدة، وتقدم مصلحة الشعب وبناء الدولة على مصلحة الأفراد ورؤساء الكتل والأحزاب، وفي هذه الحالة فإن الطبقة السياسية كلها سوف تنتشل نفسها من الفشل والضياع، وفي نفس الوقت تمد يد العون للشعب الذي يعاني من نواقص لا تعد ولا تحصى، فبدلا من تعويضه عن سنوات العذاب والفقر والحرمان، انشغل السياسيون في صراعاتهم وفي التخطيط لجمع الثروات والأموال وفتح المشاريع في دول قريبة أو بعيدة، تدر عليهم الأموال والموارد والثروات، في حين يتضور الكثير من فقراء الشعب العراقي جوعا وقهرا وحرمانها، فهل هذا ما كان ينتظره العراقيون من معارضي صدام والبعث؟؟.
في الحقيقة أن الفارق ضئيل جدا بين النظام الدكتاتوري الفردي، وبين دكتاتورية الأحزاب وإجهاض التجربة الديمقراطية، فكلاهما يسوم الشعب مر الهوان، وكلاهما يرعى مصالحه وامتيازاته ويتجاهل الشعب، وهذا ما يحدث اليوم، كما يفصح عنه الواقع، حيث زيادة نسبة الفقر، واقتصار التحسن المالي على فئات معينة، فصار هناك تباين في العيش فيما تغص تقاطعات الطرق والشوارع بمظاهر البؤس من خلال التسول او سوى ذلك من مشاهد أخرى.
الخلاصة، ما يحدث اليوم خطير سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتجربة السياسية تقف اليوم على مفترق طرق، فأما الدخول في النفق المظلم الذي لا رجعة منه عن الانهيار، وأما الخروج الى الضوء حيث ترميم التجربة السياسية وتعضيدها بالثبات والمعاصرة، من خلال إبعاد البلاد عن دكتاتورية (الحيتان)، والعمل بحرص على بناء نظام سياسي مستقر يحرص على الديمقراطية والتعددية وحماية الحريات والحقوق ويضمن الحياة الحرة الكريمة للفرد والجماعة.
اضف تعليق