منذ أن رُفِعَتْ القيود عن العراقيين وانفتحت لهم الأبواب والنوافذ كلها، وصار بإمكانهم أن يكسروا عزلتهم عن المجتمع الدولي، ظهرت الاختلافات والخلافات العرقية والدينية والعقائدية الى العلن، وقاد هذا الظهور الصادم الى اشتعال صدامات وصل بعضها الى حد تصفية الآخر أو خطفه وتعذيبه وهي أفعال عانى منها العراقيون في أزمنة الحكومات القمعية العسكرية والفردية، لكنها بعد 2003 أخذت طابعا آخر، حيث مكونات الشعب نفسها بدأت بمرحلة الصراع والقمع والمواجهة فيما بينها واشتدّ أوار تلك المواجهات الساخنة بين الأعوام 2006 و 2009 حيث بدأ العراقيون يميلون الى طرائق أخرى لمعالجة الخلافات.
التعايش كان من أهم تلك الطرائق الجديدة، فقد وعى العراقيون أن هذا البلد لا يمكنه استيعابهم مع مشاكلهم وخلافاتهم العرقية والدينية والفكرية وسواها، لذلك على المكونات العراقية كافة أن يبحثوا عن معالجات وأساليب جديدة تكبح الخلافات من خلال طريقة ناجعة جديدة وقد جدوا بالفعل ذلك ألا وهي أسلوب التعايش بين المختلفين عرقيا وعقائديا وفكريا، وقد تم تأشير تطور هذه الثقافة الجديدة بعد أن وعى العراقيون أن لا سبيل لحل تناقضاتهم بالقوة والقتل، وإنما أسلوب الحوار والتفاهم هو الحل الأوحد الذي يتوافر لديهم ويضمن حقوقهم ويحقن دماءهم.
وهذا التطور يعد قريبا من ثقافة عالمية تعتمدها الأمم المتحضرة، فثمة مثلا في شعوب الهند والصين واليابان وأمريكا أعراق وديانات وأفكار مختلفة فيما بينها، لكن هذه الأمم العملاقة من حيث النفوس تمكنت من احتواء الخلافات كافة بالحوار الذي يعد من أهم مؤشرات النضوج المجتمعي، مع قبول الاختلاف وعدم الانصياع له، والتعامل مع الرأي الآخر بطريقة متمدنة، تدل على سعة البال والنفس والعقلية التي يحملها الإنسان، ويزن بها الأفكار والأشياء وأنماط الحياة التي تختلف عن حياته وأفكاره وقناعته، إذاً لا ينبغي لك أن تتواطأ مع الفكر المختلف، لكن لا يصح لك نسفه بأية حال، بل عليك قبوله والتعامل معه بحيادية من دون ان تعمل به، او تقبل فرضه عليك من لدن الطرف الآخر، مثلما لا يجوز لك إطلاقا ان تفرض رأيك على الآخرين، وتعلن أن رأيك هو الأوحد في الصواب، وانما ينبغي أن تكون هنالك وسطية واعتدال ومثلما ترغب من الآخر أن يحترم ثقافتك وأفكارك ينبغي أن تبادله بالمثل، وعلى جميع العراقيين أن يتبنوا ثقافة التعايش كي يعيشوا بسلام ويتفرغوا للتطور والازدهار كما هو حال الشعوب المستقرة المبدعة.
اعتماد التفاهمات المشتركة
لذلك شاعت ثقافة التعايش عالميا، وأدرك العراقيون أهميتها، حيث يتفق المعنيون من مفكرين وسياسيين وغيرهم، على أن درجة التعايش بين مكونات المجتمع، هي المعيار الأكثر دقة على مدى تحضّر ذلك المجتمع، بمعنى أوضح، كلما كان المجتمع ومكوماته أكثر استعدادا للتعايش والانسجام والتقارب والتناغم، كلما كان المجتمع أكثر تطورا وتقدما واستقرارا واقترابا من كمال التحضّر، في العيش والتفكير والسلوك على نحو عام، لذلك تعد سمة التعايش من أهم السبل للعيش المتوازن، كونها استطاعت أن توحد المجتمعات، وتجعلها أكثر استقرارا وتناغما، ومن ثم تصبح مجتمعات مستقرة ومنتجة لا تشغلها التناقضات الفكرية أو الخلافات العرقية والمناطقية بل تعتمد التفاهمات المشتركة وتعمل على تثبيت ركائز التعايش بين المكونات العراقية المتعددة من حيث العرق أو المعتقد أو المكان أيضا.
وبعد أن آمن معظم العراقيين بالأهمية القصوى للتعايش ووجوب الأخذ بها كوسيلة أو أسلوب مشترك للعيش معا، كما تفعل المجتمعات الواعية في نشر ثقافة التعايش بين الأطفال أولا، صعودا الى الفئات العمرية الأخرى، ولكن هي تضمن أولا نشر هذه الثقافة بين الأطفال لكي ينمو الإنسان وهو حاملا في تكوينه الفكري والسلوكي، ثقافة التعايش والاندماج في المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية والعرقية والدينية وما شابه، لهذا لا تتعرض مثل هذه المجتمعات الى أية أزمة أو حالة من حالات التطرف، والتعصب والتكفير كما يحدث في بعض المجتمعات والدول الإسلامية، حيث يلجأ كثيرون الى تكفير الآخر، لمجرد الاختلاف في الرأي، أو الفكر أو الدين أو الثقافة أو العرق وما شابه، وهذا بالضبط ما يحتاج له العراقيون خصوصا في هذه المرحلة المعقدة، وبعد أن ذاق العراقيون مرارة الصراعات العقائدية وسواها، بات من الواجب عليهم النزوع نحو التعايش وتثبيتها كمنهج حياة ينطوي على قاسم مشترك يقبل به الجميع تفاديا لحالات الصراع التي تأتي على الأخضر واليابس دون مبرر يستحق ذلك.
التعايش والتناغم بين مكونات الشعب
لذا على العراقيين أن يكونوا أكثر وعيا بطبيعة المرحلة الحرجة التي يسعون لتجاوزها اليوم، والتي تضم بين طياتها كثير من التناقضات التي قد تخلخل الأمن والعيش بسلام، فلا مجال للعراقيين ولا خلاص لهم إلا باعتماد التعايش وكما تخلصت كثير من الشعوب من حالات الاحتقان المجتمعي بسبب اختلاف المكونات من حيث طبيعة الانتماء، ولكن درجة تحضّر تلك المجتمعات وتمدنها، جعلها أكثر قدرة على الاندماج السريع، وفض الخلافات عن طريق السبيل الأدق والأكثر فاعلية ألا وهو التعايش الذي يمحو حالات الصراع، ويحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تناغم وتفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم والقوي وهذا بدوره يشجع على الإبداع وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في دخيلة الإنسان، على العكس فيما لو كانت الأجواء محتقنة ومتشنجة بين مكونات المجتمع، اذ يؤدي هذا الى قتل المواهب وتبعثر الطاقات واندثارها، بسبب حالات الصراع والأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجتمع الذي لا يؤمن بالتعايش ولا يعمق هذه القيمة الكبيرة، إذ من البديهي عندما ينشغل الشعب بالخلافات بين مكوناته، فإنه سيكون بعيدا عن التفرغ للإبداع والتميز الفكري أو المادي.
وقد يتساءل بعضهم عن السبل الأسرع والأكثر ثباتا من سواها لاعتماد التعايش وتثبيت أركانه في المجتمع العراقي، لذا فإن الكيفية التي يتم من خلالها نشر هذه الثقافة بين مكونات المجتمع ابتداءً من الأطفال، فإن الامر يتطلب جهدا وتخطيطا دقيقا وتنفيذا مخلصا من لدن الجهات المعنية، لاسيما الجانب الحكومي والجهات التعليمية التربوية المعنية، فضلا عن المؤسسات والمنظمات التي تُعنى بنشر قيم المحبة والسلام والتسامح بين أوساط الشعب كافة، ولاشك أن الدولة ينبغي لها ان تدعم هذا الاتجاه وتقدم التسهيلات اللازمة للجهات الفاعلة والناشطة في هذا المجال، إذ يتطلب الأمر نوعا من الدعم الحكومي لاسيما المادي لإقامة النشاطات المختلفة كالندوات وعرض الأعمال الفنية في قاعات عرض جيدة ومناسبة، وإقامة دورات التدريب والترويج الفعلي لقيمة التعايش بين الأطفال وجميع الفئات لضمان انتشار هذه الثقافة فكرا وسلوكا، لتصبح في آخر المطاف منهج سلوكي يومي معتاد من لدن الجميع، وليس حالة مظهرية شكلية يتعاطاها البعض من اجل التجميل الخارجي او لتمرير أهداف سياسية وما شابه، أي تصبح حقيقة واقعة يتعامل وفقها المجتمع في علاقاته اليومية بطريقة منهجية معتادة ومتفق عليها.
في الخلاصة أدرك العراقيون على نحو قاطع أن الصراعات والاحتراب الأهلي وتحويل الخلافات الفكرية والعرقية وما شابه الى نوع من التصادم والصراع لم يعد يوافق العصر ولا يستجيب للمستجدات الفكري والحضارية، ولهذا بات خلاص العراقيين من أزماتهم الاجتماعية وحتى السياسية مرهونا باعتمادهم على التعايش كوسيلة وخيار يؤمنون بها إيمانا تاما لا مجال للتراجع عنه حتى يكون بمقدورهم العيش تحت مظلة الاستقرار والإبداع والاندماج في المجتمع العالمي.
اضف تعليق