في ظهيرة اليوم وشمسها الحارقة.. أحدهم طرق بابي، خرجت وإذا به طفل في التاسعة، حافي، يجوس الأرض الإسفلتية الساخنة بحذر بباطن قدمه، كأنه يدوس على جمر، ملابسه رثة، وقميصه بلا أزرار، سألته ماذا تريد، قال: مساعدة.
سألته أيضا: لماذا لم تأت الصبح أو في المساء كي تتخلص من حرارة الشمس.
بقيَ صامتا، ثم طلب مني قليلا من الماء، دخلت الى البيت حانقا عليه وعلى نفسي.. عدت له بورقة نقدية فئة (250) دينارا وقنينة ماء بارد، شرب وارتوى وأخذ الورقة وباشر بطرق الأبواب الأخرى، وسرعان ما التحقت به أخته التي تكبره ربما بسنتين.
أتساءل هنا.. لو أننا أصبحنا دولة مدنية حقا تدافع عن مواطنيها، وتحاسب الجميع على الخلل، أقول.. من يتحمل مسؤولية هذا المشهد، الحكومة، أم المجتمع، أم الأسرة، علما أنني شعرت بتأنيب الضمير كأنني أنا من أوصل الطفل وأخته الى هذا الحال.
ربما تكون الحاجة للمال هي من تدفع بهؤلاء الأطفال الى الاستجداء والتسول، والأسوأ حين يكون الطفل مجبرا على العمل، فالأطفال قادة وبُناة المستقبل، وهذه جملة نسمعها كثيرا من أفواه الجميع تقريبا، ونقرأها كثيرا أيضا، لكننا في الوقت نفسه، نلاحظ عدم السعي لتكوين الركائز العملية المناسبة التي تحول دون التسول وإجبار الطفل على العمل الشاق أو الخطير الذي لا يتناسب مع قواه ولا مع مداركه.
إن الجهات والمؤسسات والمنظمات والشخصيات المعنية بمعالجة هذه الظاهرة المتفشية في المجتمع العراقي، لم تقم بواجبها كما يجب، حتى الحكومة والأسرة متقاعسة في هذا المجال، فلم نلمس جهدا فعليا جادا لإنقاذ الأطفال من خطر التسول والعمالة وفقدان فرص التعليم في عالم لم يعد يقبل الأميين بين صفوفه!، وعندما نأتي للحديث عن مجتمعاتنا الاسلامية والعربية، فإننا نلاحظ انتشارا مؤسفا لهذه الظاهرة، وفي مقابلها نلاحظ إهمالا كبيرا من المعنيين بمحاصرة التسول ومعالجة البطالة والقضاء عليها، على الرغم من أن الثروات والموارد المالية كبيرة وهائلة في الدول العربية والإسلامية، لكن سوء إدارة هذه الموارد والأموال والثروات، وانتشار العوامل المسببة لظاهرة عمالة الأطفال ساعدت على تثبيت أركان التسول والاستجداء التي يُقال أن عصابات ومافيات كبيرة تقف وراءها.
عوامل مساعدة لانتشار الاستجداء
ومما يزيد المشهد تعقيدا، انشغال المسؤولين بمآربهم الخاصة، تاركين دورهم الأساس في بناء أجهزة الدولة وأركانها التي تحفظ النظام والقانون وتحمي حقوق الأطفال وعموم المواطنين من أي تجاوز كان، بيد أن حالة الانفلات الإداري والفساد المالي، وغسيل الاموال والتجاوز على ثروات وحقوق الشعوب، كلها ظواهر وعوامل مساعدة لانتشار تسول وعمالة الأطفال عراقيا وعربيا ما يعني أن الوضع المتدهور يستدعي معالجات علمية قائمة على التخطيط والتنفيذ الحازم والدقيق.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أنه ما يزال هناك الكثير مما ينبغي فعله، فآخر التقديرات تشير إلى أن هنالك 215 مليون طفل يمارسون العمل، 115 مليون طفل منهم منخرطين في الأعمال الخطرة، هذا على المستوى العالمي، ولا شك أن نسبة عالية من الإحصائية المذكورة تشمل العراق ودولا عربية أخرى، وهذا ما يدفع باتجاه البحث الدائب عن حلول ناجعة ومدروسة مسبقا، علما أن ثمة جهودا دولية حديثة تسعى للقضاء على ظاهرة التسول وعمالة الأطفال، ومن بينها ما يجري في العراق بخصوص طرح المعالجات التي تتطلب أولا حزما في التنفيذ مع الشروع بإقرار جملة من التشريعات التي تعالج هذه الظاهرة في جميع المدن العراقية.
إن مثل هذه الخطوات الإجرائية تأتي في الاتجاه الصحيح تماما، لكي تصبح مقولة الأطفال قادة وبُناة المستقبل في محلها الصحيح، وهذا يتطلب من المنظمات الدولية المستقلة ومن الدول الغنية أيضا، أن تبذل جهدا كبيرا ومسعى راسخا في مساعدة الدول الأكثر فقرا والأسوأ في إدارة الموارد والأموال، كما يحدث في العراق، فالهدف أولا وأخيرا هو القضاء على هذه الظاهرة، وفي حالة توافر الاموال اللازمة لتنمية المشاريع الحامية للاطفال، واستخدام هذه الموارد والاموال بالطرق الصحيحة، ضمن مشاريع تنموية مخطط لها من قبل لجان وكفاءات متخصصة، فإن فرص القضاء على التسول عمالة الأطفال سوف تتضاعف، ويصبح عالمنا خاليا من الأمية ما يتيح فرصا كبيرة أمام المراهقين والأطفال وحتى الشباب كي يصبحوا في أوضاع أفضل وأرقى مما هم عليه.
أصوات تنعق في الاتجاه الخاطئ
علما أن المساعي الدولية وما تقوم به المنظمات العالمية لا يكفي لمعالجة هذه الظاهرة، فإذا لم يتحرك العراق نفسه، الحكومة والمنظمات والنخب المعنية، فإن الحلول تبقى بعيدة المنال، ونبقى نعاني من هذه الظاهرة المشبعة بالإذلال لاسيما أننا نمتلك من الموارد والثروات ما يمكن أن يجعلنا من أفضل الدول والشعوب فيما لو تعاملنا معها وفق ضوابط العلم والإدارة الجيدة والنزاهة المدرّبة بصورة تخصصية جيدة.
هنالك أصوات تنعق في الاتجاه الخاطئ، وترى أن الحديث عن التسول ينطوي على التهويل الإعلامي وما شابه، حتى يبقى الوضع القائم بلا حلول، لكن عمالة الأطفال تعني ببساطة حرمان الطفل من التعليم، كونه لايجد وقتا كافيا لذلك، إضافة الى فقره وقلة موارده التي لا تسمح له بمواصلة دراسته وتعليمه، ولا يتوقف الامر عند هذه الاسباب فقط، بل هناك الدور العائلي الذي يتسبب بحرمان الاطفال من الدراسة وزجهم في مضامير العمل المختلفة حتى الخطيرة منها، والسبب عجز الاب والام عن القيام بدورهما الصحيح، وخمولهما ولا مبالاتهما واتكالهما على الاطفال في توفير مصدر الرزق العائلي، هذا يعني أن العائلة تشترك في كثير من الاحيان في اهدار فرص التعليم للطفل وتفقده فرصة الانسجام مع عالم اليوم الذي يكاد لايقبل غير المتعلم، إلا في الاعمال العادية التي لا تتطلب مهارات معينة ينبغي توافرها لدى الأطفال، وفي جميع الحالات يكون الطفل هو المتضرر الأول من هذا الوضع المعقد.
لذا لابد أن يتعامل الجميع مع هذه الظاهرة من منطلق المسؤولية العالية تجاه بُناة المستقبل، وعلى الرغم من درجات ونسب النجاح المشجعة، التي احرزها المجتمع الدولي في مقارعة هذه الظاهرة، إلا أن الجهود الحقيقية المتواصلة لا تزال مطلوبة، ولابد أن يكون هناك تعاون عالمي في هذا الصدد، بالاضافة الى التعاون داخل الدول على انفراد مع أهمية الدور العائلي، والمنظماتي وما شابه.
وفي نهاية المطاف، فإن مستقبلا خاليا من التسول وعمالة الأطفال هو في المتناول، حيث تم تحقيق تقدم كبير في جميع أنحاء العالم في مجال مكافحة عمل الأطفال، لكننا نريد هنا أن نركز على الوضع في العراق تحديدا، حيث لا تزال أعداد غفيرة تتوزع العمل في مهن صعبة، وتحت ظروف قاسية، ما يدفع بالكثير من الأطفال الى الاستجداء، وهذا الحال يجعلنا نطالب الجهات الرسمية المعنية بهذا الأمر والمنظمات والنخب والشخصيات، بحتمية تقديم المساعي الجادة لوأد هذه الظاهرة التي ما عادت تنسجم وروح العصر.
اضف تعليق