الإجابة عن تساؤل من هذا النوع لا يمكن أن تكون بكلمة واحدة، نعم أو لا، ثمة حيثيات وتفاصيل لابد من الخوض فيها، فهذا السؤال الذي يطرحه العنوان من النوع المؤرِّق، إذ أن هناك من يظن أن النظام الديمقراطي سياسي بحت، ويفصل بينه وبين نظام الحياة، بينما تؤكد الحقائق أننا بصدد نظام حياتي ثقافي سياسي سلوكي، لذا فإن تحقيق النتائج المرجوّة في هذا الإطار قد تقود الى خسائر وتضحيات كبيرة، وحينما تبدأ أمة أو شعب ما رحلته في المنهج الديمقراطي، عليه أن يتوقع ظهور الكثير من الاشواك والعقبات التي لابد له من تجاوزها، ويتم ذلك بالسعي والذكاء والتعاون الجماعي الدائم، والإيمان القاطع بالمستقبل، وعدم ترك حالة الإحباط تهيمن على أفراد المجتمع، فالأمل بصناعة منهج ديمقراطي والسعي في هذا الاتجاه والإصرار على معالجة الإشكالات وإزاحة العقبات هو الأسلوب الذي قاد الأمم المتقدمة الى مراكزها الحالية في قيادتها للعالم المتمدن.
كذلك من الأفضل أن لا ننسى ماضينا المأساوي، فنحن كعراقيين ندخل بوابة الديمقراطية المعاصرة في خطوة أولى وفقا لتأريخنا المنظور على الأقل، ولهذا السبب نحن مطالبون بالتروّي والتأني في الحصول على نتائج باهرة، بمعنى لابد أن تظهر حالات الإحباط هنا وهناك، فعلينا بالصبر كي نقطف الثمار المطلوبة، ولكي نؤسس لنظام حياتي جديد نحن بأمسّ الحاجة إليه، ولابد أنْ نتفق على أنَّ خطوة من هذا النوع ستكون بالغة الاهمية والتعقيد، لأن أهميتها تأتي من كونها خطوة أولى مؤسِّسة لنظام حياة لم نعشه من قبل كما يجب، ولم نستفد منه في تنظيم شؤوننا كما فعلت امم سبقتنا الى ذلك حتى غدت من اكثر الامم تقدما وتطورا وازدهارا، فالأمر يشبه مسيرة إنسان يولد وينمو وبتعثر في النمو وتهاجمه أمراض عديدة وكثيرة تتم معالجتها ولكن بالنتيجة ينجو الإنسان من الموت ويكون منتجا بارعا ومتميزا.
ليس علينا أن ننسى تاريخنا الحافل بالبطش الدكتاتوري، وذلك النظام الحياتي القائم على القمع والاستبداد، لذا ليس مستغربا ما يحدث في الساحة السياسية العراقية من تباطؤ ومعرقلات وتجاذبات بين السياسيين، وينبغي أن لا يُنطر إليه على أنه حالة أبدية لا يمكن معالجتها، أو حالة مستعصية لا يمكننا الفكاك منها او التخلص من إفرازاتها ومساوئها، بل ان ما يحدث في هذا المضمار هو أمر كان قد حدث في معظم التجارب الديمقراطية التي سبقتنا، ولابد أن تتمخض خطوة الولوج الأولى لبوابة الديمقراطية عن ذلك، خاصة إذا فهمنا أن هذه البوابة بقيت مغلقة بوجوه العراقيين والعرب والمجتمعات الإسلامية إلا ما ندر، قرونا وعقودا متتالية، ومن الطبيعي أن تتعثر مسيرة من هذا النوع في مجتمعات تدخل للمرة الاولى في حيز التجريب الديمقراطي المعاصر، لتبحث لها عن نظام ديمقراطي ينقلها من منهج الانغلاق الى فضاء التحرر والتميز والانطلاق المحسوب.
بين التخطيط وحبكة التنفيذ
تبقى الأهمية تكمن في مراقبة أنفسنا ونحن نعمل من اجل تأسيس وتطوير نظام ديمقراطي، وهذا الأمر لا يعني الطبقة السياسية وحدها، إنما جميع النخب وأفراد المجتمع تقع عليهم مسؤولية بناء النظام الجديد، ويبقى الأهم هو المثابرة الجمعية لتصحيح الأخطاء ونحن نغذ السير للنظام الديمقراطي، وعلينا مراقبة العثرات التي قد تحدث أثناء ذلك وفهمها ووضع الحلول اللازمة لها، وهو أمر لابد أن يتبناه ذوو الاختصاص والمعنيون من النخب السياسية والثقافية والعلمية وغيرها، حرصا على إدامة الزخم الديمقراطي، وتحقيقا للأهداف الكبيرة المرسومة على أننا جميعا مطالبون بعدم ترك الإحباط يتسلل الى نفوسنا وإرادتنا، فهذا يعني موت الطموح والأخير يعني انطفاء جذوة الاندفاع نحو صنع نظام يكفل لنا حياة جديدة تليق بالبشر.
يتضح لنا خطوات تبدأ بالتخطيط يدعمها الإصرار، حيث يقودنا ذلك للتشبث بأهمية تحويل جميع الاخفاقات والعثرات والتلكؤات التي تعاني منها التجربة الجديدة الى نجاحات لا ينبغي التنازل عنها مهما كانت الأسباب، خاصة إذا عرفنا وآمنا بأننا نؤسس لنظام حياتي جديد قادر على أن يؤهلنا لتحقيق العيش الذي يليق بالإنسان كرامةً ومنزلةً وقيمةً ووجوداً، ذلك أن الإنسان هو قيمة الحياة الأكثر جدارة بالاحترام، على أن يبدأ ذلك بإيمان الفرد بنفسه أولا.
ولكن علينا جميعا أن لا ننسى مطلقا بأن هذا الأمر يستدعي عملا جبارا، تتبناه النخب ذات العلاقة، وهي المسؤولة أولا وأخيرا على تحقبق هذا الهدف المثالي الواقعي في آن، فهو مثالي لأنه يسعى لتحقيق الحياة المثالية للعراقيين بعد أن عانوا حرمانا وفقرا وتسلطا مزمنا على مدى تأريخهم القريب والمنظور والبعيد معا، وهو هدف واقعي لأن جميع المقومات التي تشترك في الوصول إليه وتحقيقه متوافرة في الساحة العراقية ويتمتع بها العراقيون نخباً وقادةً وأفراداً، لكن المطلوب هو توجيه هذه المشتركات وتفعيلها بإسلوب صائب من اجل الحصول على أفضل النتائج وأنسبها، وهو هدف ينبغي أن لا يغيب عن العقول التي تخطط لبناء المنهج الديمقراطي المنقذ للعراق والعراقيين حاضرا وقادماً.
المواظبة في تجديد الأفكار
على أننا ينبغي أن نتذكر دائما، قضية التغيير المطلوب، فهو الأسلوب الوحيد القادر على السير بنا نحو ما نريد، لذا نحن بحاجة ماسة الى المواظبة في تجديد منظومات الفكر القار والسلوك الساكن، والعمل على تجديدها بصورة دائمة بما يتناسب ومتطلبات العصر، وينبغي أن يشمل هذا الجهد منظوماتنا العرفية والاخلاقية والانتاجية وغيرها، ومع أن الامر يبدو صعبا او بعيد المنال، لكننا لا نملك طريقا آخر سوى مواصلة السير في الطريق الديمقراطي الذي يتيح لنا فرصا متنوعة للتغيير الافضل في المنظومات والمجالات التي سبق الحديث عنها، فليس متاحا أمامنا تجريب الدكتاتوريات ثانية، ولا ينبغي أن نسمح بذلك، بل علينا غلق الابواب التي قد تقودنا ثانية الى قمع الحريات والتسلط والتفرد بصناعة القرار، ومصادرة الرأي، وتقويض مبدأ التعايش كمنهج حياتي، وإقصاء الصوت المعارض في السياسة أو سواها، من هنا على الأفراد والنخب وعلى المعنيين جميعا التعاون ووضع الخطط التي تكفل لنا إمكانية بناء نظام حياة ديمقراطي ينتشلنا من واقعنا المرير، وهذا يمكن أن يتحقق في التزام وإبرام عدد من البنود والخطوات منها:
- معالجة النواقص التي تفرزها هذه المرحلة بعد تأشير اسبابها وسبل معالجتها.
- تطوير منظمات المجتمع المدني وتفعيل دورها ومضاعفة حرصها في مجال المراقبة والتصحيح واقتراح البدائل.
- تطوير عمليات الرقابة بكل أنواعها، باستثناء الفكر والإعلام، ودعم الجهات المعنية بها.
- تفعيل دور النزاهة ومساندة خطواتها في مكافحة مظاهر وادوات الفساد كافة.
- تنمية ثقافة القبول بالرأي الآخر واحترامه.
- تنمية تيارات النقد الهادف وتطوير حرية الرأي والقنوات التي تسعى لذلك.
- مساندة القضاء ودعم استقلاليته.
- رصد التوجهات السلطوية للاحزاب والشخصيات السيادية والتعامل معها بجدية تامة بسبب خطورتها على البناء الجديد.
- تشجيع الفرقاء على تفضيل مبدأ الحوار وتلاقح الافكار ورفض وسائل وسبل التهميش لأنها تقود الى التناحر والمضاربات السياسية وغيرها.
- إيمان الجميع بأن الفرصة المتاحة الآن في تكريس الديمقراطية كمنهج حياة ينبغي أن لا تضيَّع مهما كانت الأسباب والأهداف المضادة.
- وأخير إذا تعامل العراقيون مع هذه الفرصة التاريخية بحكمة، وأصروا على صنع نظام ديمقراطي، هذا يوجب عليهم جميعا أن يتعاملوا مع الفرصة كما لو أنها الأهم في تاريخهم.
اضف تعليق