لم تطلق تسمية "السلطة الرابعة" على مهنة الصحافة والاعلام جزافا، بل نالت هذا الوسام عن جدارة مطلقة، وعبر عقود من الزمن، استطاع رجالها ونسائها ضرب اروع الامثلة في ايصال الحدث (مهما كانت الضريبة التي تفرض عليهم قاسية ومؤلمة)، والمساهمة بصورة فاعلة وكبيرة في بناء المجتمعات الديمقراطية، بل والمحافظة عليها من الضياع او الاستبداد والفساد، عبر مساهماتهم وكتاباتهم في مختلف وسائل الاعلام، بالمقابل فان دماء كثيرة سالت في مختلف مواقع الحروب والصراعات، اضافة الى التصفيات الجسدية والتهديدات والاعتقالات والتعذيب الذي تعرض له الالاف من العاملين في مهنه المتاعب.
وبحسب منظمة "مراسلون بلا حدود" في تقريرها السنوي لعام 2014 تراجعت حرية الصحافة بشكل "حاد" على الصعيد العالمي. ووفقا للتقرير نفسه، فإن سوريا والعراق وليبيا من بين الدول التي تحتل أسفل الترتيب العالمي لحرية الصحافة، واشارت ان الجميع يستهدف الصحفيين (منظمات ارهابية، مهربي المخدرات، المافيات) تختلف الدوافع لكن الأساليب هي ذاتها"، وهي تقوم على "الترهيب والأعمال الانتقامية لإسكات الصحافيين والمدونين الذين يتجرؤون ويجرون تحقيقات أو يرفضون أن يكونوا لسان حالهم"، ومن اصل 180 بلد قيمتهم المنظمة، جاء العراق في المرتبة 156 من حيث البلدان الاخطر في العالم، وتعتمد المنظمة في هذا التصنيف على سبعة مؤشرات هي: مستوى التجاوزات، وانتشار التعددية، واستقلالية وسائل الإعلام، والبيئة والرقابة الذاتية، والإطار القانوني، والشفافية، والبنى التحتية، وخلصت المنظمة إلى أن "حرية الصحافة في تراجع في القارات الخمس"، مؤكدة أن مؤشراتها "قاطعة".
واشار تقرير لجنة الحريات الصحفية الصادر من نقابة الصحفيين العراقيين الخاص بالعام الماضي الى "استمرار عمليات استهداف الصحفيين بالقتل والتهديد والوعيد في محاولة لمنع السلطة الرابعة من اداء دورها الرقابي الخلاق"، على الرغم من وجود "التوجه الجديد لحكومة السيد حيدر العبادي وانفتاحها الواسع على حرية العمل الصحفي"، واوضحت "ان الاجواء الديمقراطية السائدة والمناخات التي تتعزز بشكل كبير في حرية التعبير وما تحظى به الاسرة الصحفية من اهتمام ورعاية رسمية وشعبية، هذه الاجواء لم تمنع مسلسل العنف القائم على استهداف الصحفيين وان العمل الصحفي بالعراق رغم كل ذلك مازالت تحفه المخاطر والالغام، ولابد من الاشارة الى ان بعض المؤسسات الاعلامية ومساكن الصحفيين لم تسلم من حالات الاعتداء سواء من قبل الاجهزة الامنية او من خلال اطراف مجهولة بهدف اسكات صوت الحق وتغييب الحقيقة ومصادرة الافكار بالإكراه وفرض الهيمنة بلغة التهديد والوعيد"، كيف لا والصحافة العراقية خسرت (14) شهيدا من الصحفيين، اضافة الى رصد 178 حالة اعتداء تراوحت بين "حوادث الاغتيال والاعتداء الجسدي ورفع الدعاوى القضائية والاعتقال والاحتجاز المؤقت والمنع القسري تحت تهديد السلاح من تغطية الاحداث والنشاطات"، بحسب منظمات حقوقية اخرى.
صوتكم هو سلاحكم
رغم كل الالام التي تعتصر قلوبنا على خسائر العراق البشرية وهو يحارب الارهاب والفساد، الا ان الامل بمستقبل افضل هو ما يدفع الجميع لعدم التراجع الى الخلف (ومنهم الصحفيين)، والمحافظة على نعمة "الديمقراطية" التي يفتقدها كثيرون غيرنا (رغم جميع السلبيات التي قد تؤشر عليها)، ولا يمكن تجاوز الخطوط الحمراء التي يحاول البعض رسمها على حرية التعبير الا برفع اصواتنا عاليا، لمنع الاخرين من التحكم بمصيرنا ومستقبلنا، وهي امانة كبيرة تحمل الصحفيين في سبيلها كل الصعاب والانتهاكات (التي اوردنا بعضا منها) الممارسة ضدهم، وحتى لا يضعف صوت الحرية والتعبير عنها، خصوصا في العراق، ينبغي ان نرتقي بمسؤوليتنا تجاه انفسنا اولا وتجاه الاخرين ثانيا، ففي المجتمعات المتطورة ديمقراطيا، ينظر الى مهنة الصحافة كجهة رقابية ضاغطة على عمل الحكومة ومؤسساتها، وهي تراقب جميع انشطة الدولة وسير الديمقراطية ورصد جميع الانتهاكات التي قد تضر بالمجتمع او الدولة، بالإضافة الى دورها الطبيعي في صناعة التأثير وتحريك الراي العام تجاه القضايا العامة والرئيسية.
في العراق، نحتاج الى صحافة تبتعد عن الانجرار وراء البريق الكاذب او تلميع الواجهات الملوثة، او حتى المجاملات التي تحسب في خانة المصالح الشخصية، فمهمة الإعلامي والصحفي اكبر من جميع المصالح العناوين والمسميات الفارغة، فهم رعاة النظام الديمقراطي الحديث النشأة في العراق، والمحافظون على استمرار الحرية في التعبير عن الراي داخل المجتمع العراقي، وصوتهم اقوى الاصوات، يزعج الفاسدين والفاشلين والمستبدين.
ومن هنا كان لزاما على العاملين في هذا المجال ان يدركوا جيد قيمة صوتهم وقلمهم البعيد عن الانتماء لجهة غير الوطن او كلمة الحق وقت الباطل، والذي ارعب كل من يقف امامهم، ولم يعرف سبيلا للرد سوى استخدام القتل والتعذيب والاعتقال والسجن، وغيرها من اساليب الضعفاء، التي بالتأكيد لن تعيق عمل المخلصين الذين رفعوا شعار "افضل الحرية مع الخطر على السلم مع العبودية".
اضف تعليق