ان واقعة كربلاء سنة 61 للهجرة، تمثل محطة بخصوصيتها، في مسيرة الرسالة المحمدية، سبقتها الوقائع التي مرت بالإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، ولولاها لما حصل ما حصل يوم عاشوراء في كربلاء، وما يؤكد ذلك الحقائق التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية المرافقة لتلك الوقائع.
وكما علّمنا علماء التاريخ، أن القراءة العلمية والموضوعية للظروف الاجتماعية يؤدي بنا الى نتائج أقرب الى الصواب للحكم على مواقف صدرت من الامة؛ افراداً وجماعات، والوصول الى قراءة صحيحة لتلك المرحلة بما يفيدنا للحاضر والمستقبل من تجارب وعبر، لاسيما وأن القضية تتعلق بالدرجة الاولى، بالعلاقة بين القيادة والقاعدة الجماهيرية، وما تحتاجه هذه العلاقة من متطلبات الايمان والولاء والتضحية، وما تواجهه من خذلان ونفاق.
لذا نجد الخوض في ملف الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، يستدعي التفكّر والتأمل في الحالات النفسية والخلفيات الاجتماعية التي تشكلت منها الاحداث، وإلا؛ فمن الناحية الظاهرية، يجب أن يكون أهل الكوفة أقرب الى الامام الحسن، عليه السلام، من أي شخص آخر، كونه ورث من أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام، محبة عميقة في النفوس، كما هو الحال لعامة المسلمين في سائر الأمصار، لما شهدوه من عدل ومساواة وأمن اجتماعي، ومحاربته للطبقية والتمييز والطغيان، وبشكل عام؛ تحكيم منظومة القيم والمبادئ التي غابت عن الامة منذ رحيل رسول الله، صلى الله عليه وآله.
فما الذي جعل الامام الحسن، عليه السلام، يبقى وحيداً في الميدان أمام معاوية ويضطر للتخلّي عن الحكم والقيادة السياسية له بشكل أذهل التاريخ والاجيال؟.
بيعة للولاية أم الطاعة للأقوى؟
علاقتنا بأهل الكوفة تاريخياً بدأت مع دخولها من قبل أمير المؤمنين، عليه السلام، قادماً من المدينة، ومعه أجهزة الدولة وأركان الخلافة، لمواجهة تمرد الناكثين (اصحاب الجمل)، مما يؤكد الطبيعة العسكرية لمدينة الكوفة منذ أن وجدت في صدر الاسلام كحامية للجيش الاسلامي، وهذه الطبيعة تركت بصماتها على أهلها، فكانت خليطاً غير متجانساً من الفئات الاجتماعية والامزجة والمستويات في التفكير، ويؤكد المؤرخون أن المدينة كانت عبارة عن وحدات عسكرية تتدخل السلطة الحاكمة دائماً في توزيعه مناطقياً واجتماعياً، حيث تقوم، وحسب ما تراه مناسباً بضم بعض الوحدات – وهي القبائل- الى بعضها في تكوين اجتماعي يشترك في الارض، يشرف عليه مسؤول معين من قبل السلطة.
وما يلفت الباحث وجود إصرار على إبقاء الطابع العسكري لأهل الكوفة، وعدم تحولها الى حاضرة للعلم والثقافة، إنما تبقى حامية عسكرية تنجب المقاتلين المحترفين، وذلك من خلال قرار يحظر فيه رجال القبائل القاطنة على الاشتغال بالاعمال التجارية او الزراعية، وحدث هذا في عهد عمر بن الخطاب، وما يثير الاستغراب أن يأتي كاتب في التاريخ ويبرر لهذا القرار "لئلا يركنوا الى الكسل ويسيطر عليهم حب النعيم، فكان عمر بن الخطاب أول من وضع ديوان الجند، او ديوان العطاء وفرض للمسلمين ارزاقاً سنوية لهم ولذريتهم تعويضاً لهم عن الاشتغال بالمهن الاخرى..."! (العراق في العهد الأموي، ثابت اسماعيل الراوي)
هذا القرار وغيره أبعد أهل الكوفة عن الحالة الايمانية التي يفترض ان تكون عند أي مسلم، وقربتهم الى الطاعة العمياء للقائد العسكري، كما لو أن مجتمعاً كبيراً يقدر أهله آنذاك بمليون نسمة، يعيشون بين اسوار معسكر ضخم، بيد أن الخمس سنوات من حكم أمير المؤمنين، عليه السلام، أوجدت ملامح جديدة لهذا المجتمع، فتمخض عن فئات؛ الخوارج واصحاب الدين القشري، وأهل المطامع والغنائم، وأهل العصبيات القبلية والجاهلية، الى جانب الشيعة الموالون بأيمان عميق لأهل البيت، عليهم السلام.
ولذا نجد أن نفس أولئك الذين أنهالوا الى الامام الحسن، يبايعونه بالخلافة والحكم، أنفسهم وأمثالهم أنهالوا على أبيه أمير المؤمنين، يبايعونه، في تلك الوقائع المعروفة، وكان في مقدمة المبايعين للحسن، عليه السلام، قيس بن سعد بن عبادة، وهو ذلك التابعي المجاهد والمؤمن، وقال: "أبسط يدك أبايعك على كتاب اللـه وسنّة نبيه وقتال المُحلين..."! فكان جواب الإمام الحسن: "على كتاب الله وسنّة نبيه، فإنهما يأتيان على كلّ شرط"، وهذا دليل آخر على الحرص لتوجيه الرؤية نحو الولاء القائم على الايمان والعمل معاً، فكان يردد، عليه السلام، على جموع أهل الكوفة: "تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت" .
ولكن؛ السؤال المجلجل عبر التاريخ، منذ ذلك الزمان وحتى يومنا هذا، والى أمد غير معلوم؛ من أين تأتي هذه الطاعة؟.
جاءت الاجابة لأول مرة من عبيد الله بن عباس، وقد كتب الى الامام الحسن، مشفقاً عليه مما جرى على أبيه من قبل بأن "...اشترِ من الظنين دينَه بما لا يلثم لك دنياه ، وولِّ أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم، حتى يكون الناس جماعة..." الى أن قال في رسالته: "و أعلم أن عليّاً أباك ، إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء ، وسوَّى بينهم في العطاء فثقل عليهم"، بيد أن الامام رفض هذا العرض مهما كانت دوافعه، إنما التزم النهج الذي سار عليه أبيه أمير المؤمنين، بأن تكون الطاعة عن إيمان راسخ وعقيدة واضحة لا يشوبها شيء من هوى النفس وميولها التي تدفع نحو مهاوي الفتن والتشكيك والاضطراب نفسياً واجتماعياً ثم سياسياً.
الثورة الثقافية
مما يؤسف له حقاً، أن تسود ثقافة معاوية في منهاجنا التعليمية وثقافتنا وفكرنا طيلة قرن من الزمن وما تزال، عندما يعكف جيل من الباحثين الاكاديميين على ترويج مقولة "عام الجماعة" على الحقبة السياسية التي بدأت مع الايام الأولى من الهدنة التي وقعها الامام الحسن، عليه السلام، وتحولت القيادة السياسية للأمة الى معاوية، وراحوا يحيكون صورة منمّقة عن ذلك العهد على أنه نهاية الاضطرابات والحروب واجتماع الامة على حاكم (خليفة) واحد لا ينافسه أحد، دون النظر الى ركائز هذا الحكم ومتبنياته، ولا مواصفات الحاكم، وهذا ما اراده معاوية شخصياً لأمة ذلك الزمان، واستمر الحال الى أمة هذا الزمان، ولدى اقترابه من الكوفة، وتحديداً النخيلة، خطب بالناس ووجه كلامه الى أهل الكوفة: "بأني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا، ولكن قاتلتكم لتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا واني كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له".
هذه الصلافة في الخطاب السياسي كانت مقصودة من معاوية لأهل الكوفة تحديداً ليكرّس مفهوماً سياسياً جديداً في الامة غير معهود سابقاً، وهي أن الشرعية السياسية والدينية للأقوى، فلا مكان للمبادئ والقيم، ومن اراد العيش بسلام عليه تبني هذا المفهوم وجعله نصب عينيه، بل والمادة الاساس لتفكيره.
وعلى هذا الاساس تمكّن معاوية والأمويين من بعده من تكريس سنّة السبّ والشتم لشخص أمير المؤمنين على المنابر طيلة سبعين عاماً، فيما كان يشكل الحديث عن فضائله، عليه السلام، جريمة يعاقب عليها القانون الأموي بالسجن او النفي او القتل.
هنا برز دور الإمام الحسن، عليه السلام، الذي بقي أشهر معدودة في الكوفة قبل ان يعود مع أخيه الامام الحسين، عليه السلام، وأهل بيته الى مدينة جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، في إشعال فتيل ثورة ثقافية في الامة تسلب الشرعية الدينية من معاوية، بعد أن سُلبت منه الشرعية السياسية في الساعات الاولى من الهدنة التي كانت بمنزلة اليد التي أماطت اللثام عن الوجه الحقيقي لمعاوية وما يكنه من عداء للدين ورموزه، وإلا كيف يستنّى لشخص مثل معاوية الالتزام بشروط مثل: العمل بكتاب الله وسنّة رسوله، أو أن يكون أصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يقصد الحسن ولا أخيه الحسين، ولا أهل بيت رسول الله، بأي سوء... كما جاء في نصّ معاهدة الهدنة؟
وفي الفترة التي عاشها الامام الحسن مع أهل بيته في الكوفة، ومن ثم في مدينة جدّه المصطفى، لم يفوّت أي يفوّت أي فرصة لفضح السياسة الأموية المعادية للإسلام والقيم الانسانية، فكانت حركته في خطوين متوازيين: الاول: تبناه هو، عليه السلام، مع أهل بيته، والآخر تكفّلت به الصفوة من الشيعة المؤمنين، بمعنى أن معاوية واجه ثورة صامتة ممتدة بين المدينة والكوفة، ولم يكن الامام الحسن ذلك الشخص الذي ينطوي على جراحاته النفسية ويعبأ بما أخذ منه من سلطة رخيصة وجد فيها الوسائل غير النظيفة لتطبيق رسالة السماء وخدمة الانسانية، كما فعل أبيه وجده من قبل، إنما كان يواصل حضور مجالس معاوية في الشام والكوفة ولا يترك له الساحة والرأي العام، إلا ويترك بصماته العميقة في النفوس.
ولمن اراد تفاصيل المحافل وما صدح به الامام الحسن أمام جموع المسلمين، فان التاريخ يحفل بالكثير من ذلك، بحيث يضطر معاوية على الطلب من الامام بالكفّ عن الحديث خشية انقلاب رأي الناس عليه.
أما اصحابه الخلّص في الكوفة، مثل حجر بن عدي الكندي وصعصعة بن صوحان العبدي وسليمان بن صرد الخزاعي وآخرين، فقد كانوا يحاربون في جبهة أشدّ ضراوة في الكوفة لما اتسمت به من شدّة الرفض والمعارضة، مقابل شدّة الخذلان والانصياع للباطل، فكانوا يألبون الناس على الحكم الأموي بنشر فضائل أمير المؤمنين، وينهون عن السب والشتم له، ويدعون الناس لعدم الصلاة جماعة خلف الولاة الامويين، وكان هذا اكثر ما يشكوه، المغيرة بن شعبه، والي معاوية على الكوفة.
لقد حاول الإمام الحسن والخلّص من اصحابه، وكانوا قلّة قليلة آنذاك، ربما لم يتجاوزوا العشرات وسط الملايين من المسلمين بين الحجاز والعراق والشام والبلاد الاسلامية المترامية، أن يرسّخ أسس العقيدة في النفوس ويصلح الضمائر والقلوب بما يمكن الناس من اتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب، وأن يكون إيمانهم موافقاً لعملهم، بمعنى أن يكون الولاء عن قناعة كاملة بما يحمل من قيم ومبادئ تجعله يضحي من أجلها بكل ما يملك، وهذا ما يعجز عنه حكّام الجور والاستبداد على طول الخط، وإنما معاوية هو المثل الأعلى في التاريخ الاسلامي، وقد مضى، ثم اقتفى أثره الحكام في عهد بعد آخر، و حقبة بعد آخرى، حتى يومنا هذا، وكلما تراجع منسوب ذلك الايمان والثقافة الاسلامية الحقيقية، كلما تمكنت الثقافة السلطوية من التحكّم بالمصائر وتوجيه الامة الى ما تشاء.
وذات مرة عاتب معاوية صاحبه المقرّب عمرو بن العاص على سؤاله الامام الحسن، عليه السلام، عن "الكرم والنجدة والمروءة"، فأجاب الامام: "أمّا الكرم فالتبرُّع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال. وأما النجدة فالذَّبُّ عن المحارم ، والصّبر في المواطن عند المكاره..." الى آخر حديثه، ولما خرج توجه ابن العاص الى سيده (معاوية): بأن "إليك عنّي...! إن أهل الشام لم يحبوك محبة إيمان ودين . إنّما أحبوك للدنيا ينالونها منك ، والسيف والمال بيدك ، فما يغني عن الحسن كلامه"!
بيد أن هذا الكلام البتّار هو الذي دفع بمعاوية لأن يغتال الامام الحسن، عليه السلام، بالسمّ ليضع حدّاً نهائياً لمعركته الخاسرة، فهو ملك كرسي الحكم بقوة السيف، كما ملك أبدان الناس بالمال، لكن خسر عقولهم ومشاعرهم، فتحولت الكوفة من تلك الحامية العسكرية التي أريد أن تكون مربضاً للمقاتلين المحترفين والقتلة المأجورين، الى منطلق للثورات العاصفة التي تسببت في تقويض الدولة الأموية، بل استمرت مع ظهور الدولة العباسية.
اضف تعليق