انتشرت في عصر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) الكثير من الفرق والتيارات والمذاهب والنحل المنحرفة والضالة، وقد تصدى الإمام الكاظم (عليه السلام) لها من خلال بيان منهج أهل البيت المستقيم، وتوضح انحرافات بعض الفرق والمذاهب التي قامت على أسس مخالفة لخط الإسلام الأصيل.
وقد اعتمد الإمام الكاظم (عليه السلام) في التصدي للتيارات والفرق المنحرفة كالزنادقة والملاحدة وغيرهم على مناظرتهم ومحاورتهم بالأساليب العلمية القوية التي ينهزم أمامهم أصحب الفكر السقيم، ويعود بعضهم إلى الحق، كما اتبع الإمام الكاظم (عليه السلام) الاقناع بأدوات العقل والبديهة، وهو الأمر الذي لا سبيل لإنكاره من قبل أصحاب الأفكار المنحرفة.
ومن أهم الفرق والتيارات المنحرفة التي انتشرت في عهد الإمام الكاظم (عليه السلام)، والتي كان لها أتباع وأنصار، تيار الإلحاد.
فقد انتشرت في عهد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) الحركة الإلحادية، وأخذت تدعو إلى التفسخ والتحلل من الأخلاق والدين، وإنكار الخالق تعالى، أو وجود بعض صفاته الثبوتية أو السلبية، وعدم الإيمان بالأنبياء والرسل والأوصياء، وإنكار المعاد. وأخطر أشكال الإلحاد هو نكران وجود الله تعالى وهي الفكرة التي ترتكز عليها الشيوعية ومختلف أنواع التيارات الملحدة.
وقد تكاثرت الدعوة إلى الإلحاد والزندقة في العصر العباسي الأول، وتبنت أفكار الإلحاد والانحراف والزندقة مجموعة من التيارات الملحدة، ومنها:
1- المانوية:
أصحاب (ماني بن فاتك) الحكيم، الذي ظهر في زمان (سابور بن أردشير) وقتله (بهرام بن هرمز بن سابور) وذلك بعد عيسى ابن مريم (عليه السلام) أحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح (عليه السلام) ولا يقول بنبوة موسى (عليه السلام).
حكى (محمد بن هارون) المعروف بأبي عيسى الوراق، وكان في الأصل مجوسياً عارفاً بمذاهب القوم؛ أن الحكيم (ماني) زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور، والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا، ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم، وزعم أنهما لم يزالا قويين، حساسين، دراكين، سميعين، بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان. وفى الحيز:
متحاذيان تحاذى الشخص والظل[1].
وقامت المانوية ببث الحركات الإلحادية في العصر العباسي، وكان من أعلامها ابن المقفع، فقد قام بترجمة كتب ماني، وابن ديصان، ومرقيون من الفارسية إلى العربية.
كما وضع كتاباً يبشر بالمانوية، ويحمل فيه على المبادىء الإسلامية، وقد افتتحه باسم النور الرحمن الرحيم.
وقال المهدي: ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع[2].
وكانت المانوية من أكثر الأفكار الإلحادية انتشاراً في العصر العباسي الأول، وكان لها دعاة يروجون لها في مقابل الفكر الإسلامي، فبالرغم من ان المانوية تأسست قبل الإسلام بثلاثة قرون، إلا أن وجود أشخاص يدعون لها، وينشرون أفكارها بين المسلمين، ساهم في انتشارها بين البسطاء من الناس.
2- المزدكية:
أصحاب (مزدك) ومزدك هو الذي ظهر في أيام (قباذ) والد (أنو شروان) ودعا (قباذ) إلى مذهبه، فأجابه، واطلع (انو شروان) على خزيه وافترائه، فطلبه فوجده فقتله.
حكى الوراق: أن قول المزدكية كقول كثير من المانوية في الكونين والأصلين؛ إلا أن مزدك كان يقول: إن النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق، والنور: عالم حساس، والظلام:
جاهل أعمى. وأن المزاج كان على الاتفاق والخبط لا بالقصد والاختيار، وكذلك الخلاص إنما يقع بالاتفاق دون الاختيار.
وكان (مزدك) ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة، والقتال ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء، والنار، والكلأ.
وحكى عنه: أنه أمر بقتل الأنفس ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة، ومذهبه في الأصول والأركان أنها ثلاثة: الماء، والأرض، والنار. ولما اختلطت حدث عنها مدبر الخير، ومدبر الشر، فما كان من صفوها فهو مدبر الخير، وما كان من كدرها فهو مدبر الشر[3].
وقد انتشرت هذه الفرقة في العصر العباسي الأول، لأنها تدعو للتحلل من الالتزامات الدينية، والقيم الاجتماعية، وتدعو للتحرر من كل القيود الأخلاقية، وتنكر القيم الدينية، فاعتنقها خلق من الناس للانسياق مع شهواتهم وأهوائهم، والتخلص من التزاماتهم الدينية.
3- الزرادشتية:
وهم القائلون بأن في عالم الكون أموراً توصف بالخير والبركة، كما أن هناك أموراً توصف بالشرور والبلايا؛ فلا يصح إسناد كلا الصنفين من الأفعال إلى الخالق الحكيم، فيجب الاعتقاد بأن خالق الخير غير خالق الشر. وقد اخترعوا عقيدة خيالية وهي: إن الخير موجود يدعى بـ(يزدان) كما إن خالق الشر موجود يدعى بـ (أهريمن) وكلا الخالقين مخلوق لله سبحانه. وبهذه الفرضية الخيالية، تمكنوا من إقناع أنفسهم بحل مشكلة الشرور والبلايا في صفحة الوجود[4].
ويرى (زرادشت) أن الروح لا تفنى، وأنها تنعم أو تشقى بلذائذ الحياة، وأن محنتها ثلاثة أيام بعد الموت، وبعد ذلك تحملها الرياح حتى تصل إلى الصراط وتحاكم هناك ثلاثة أيام، والأرواح الخيرة تمضي إلى الجنة والأرواح الشريرة تساق إلى النار.
وقد راجت الزرادشتية في العصر العباسي الأول، واعتنقها خلق من البسطاء المغرر بهم، وقد عملت على محاربة القيم الإسلامية، وتفكيك الروابط الاجتماعية، وتحلل المسلمين من الخلق والآداب الإسلامية.
وعلى أي حال، فإن هذه المبادئ التي انتشرت في العصر العباسي تكشف لنا بوضوح عن الفراغ العقائدي، وضحالة التفكير، وسيادة الجهل، وعدم إحاطة المسلمين بواقع دينهم الذي يدعو إلى اليقظة الفكرية، والتحرر من جميع رواسب الجهل والجمود[5].
وقد كان للزرادشتية أنصار يدعون لها في العصر العباسي، وهو الأمر الذي جعل بعض الناس يتبعونها رغم وضوح عدم صحة الأفكار التي تدعو إليها، إلا أنه عادة إذا ما وجدت أي دعوة أو فرقة أو تيار من يدعو إليه، بحماس ونشاط، وكانت الأجواء السياسية والاجتماعية مساندة لنموها، فسرعان ما نجد من يتبعها ويسايرها، بل ويدعو إليها.
وكان من أبرز دعاة الإلحاد والزندقة في العصر العباسي وأشهرهم (يزدان بن باذان) الذي عرف بالكفر والزندقة.
وكان من أعلام الإلحاد: بشار بن برد، الذي تمادى في الدعوة إلى الكفر والإلحاد، وكان يدعو إلى عبادة النار! وكان مصراً على عقيدته حتى قتل بسببها.
وكان من أعلام الإلحاد والزندقة: صالح بن عبد القدوس، وكان من كبار الزنادقة، وقد أمر المهدي بقتله لزندقته.
ومن أعلامهم الحمادون الثلاثة: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد الزبرقان. ومنهم أيضاً: ابن المقفع، ويونس بن أبي مزوة، ومطيع بن أياس، وعبدالكريم بن أبي العوجاء، وعلي بن الخليل، ويحيى بن زياد الحارثي.
وقد أشار المترجمون لسيرتهم إلى بدعهم وأضاليلهم التي تدل على كفرهم وزندقتهم، ومروقهم من الدين. يقول العلامة الشيخ باقر شريف القرشي (رحمه الله): «عمد هؤلاء الملحدون إلى إفساد المجتمع الإسلامي، وإشاعة الفوضى والتحلل بين المسلمين، كما عمدوا إلى تشويه الإسلام، وذلك بافتعال الأخبار الكاذبة التي تحط من كرامة الإسلام، وقد اعترف عبد الكريم بن أبي العوجاء بذلك، فقد صرح قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام، فقال: «لئن قتلتموني فلقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوب».
وعملوا على إفساد الأدب العربي وتشويهه، وقد قام بذلك خلف الأحمر وحماد الرواية.
ويقول عنه السيد المرتضى: «إن حماد مشهور بالكذب في الرواية، وعمل الشعر وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسه في أشعارهم، حتى أن كثيراً من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعته، فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم».
وهكذا استهدفوا إفساد الدين واللغة وسائر مقومات الأمة العربية والإسلامية، ووقف المد الإسلامي من الانتشار في ربوع العالم»[6].
لكن يجب أن نشير إلى نقطة هامة جداً هنا وهي: إن الاتهام بالزندقة والكفر والإلحاد لم يكن دائماً اتهاماً حقيقياً؛ بل كان في بعض الأحيان يستخدم لأهداف سياسية، فقد استخدم بعض حكام بني العباس الاتهام بالزندقة كوسيلة للقضاء على الخصوم من الهاشميين وغيرهم من المعارضين لحكمهم، لذلك يجب التمييز بدقة بين الزنادقة والملاحدة الذين تبنوا هذا الفكر وأولئك الذين ألصقت بهم تهمة الزندقة للقضاء على الخصوم السياسيين.
مواقف الإمام الكاظم (عليه السلام) من التيارات الملحدة
اتخذ الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مواقف حازمة تجاه الملاحدة والزنادقة، وتبيين فساد معتقداتهم وانحرافاتهم العقائدية والفكرية، وذلك بالمنطق العلمي، واتباع المنهج العلمي في الرد عليهم، وبيان انحرافاتهم، كما كان للإمام (عليه السلام) الكثير من المواقف في التبرؤ منهم، ولعنهم، وتحذير المسلمين من التأثر بهم، وأهمية الابتعاد عنهم، وعدم مجالستهم أو مؤاكلتهم أو مناكحتهم؛ حتى لا يتأثروا بفكرهم المنحرف.
وقد ذكر العلامة الطبرسي في كتابه القيم الاحتجاج، بعض احتجاجات ومناظرات الإمام الكاظم (عليه السلام) مع الزنادقة والملاحدة، والتي بينت زيف وضعف أفكارهم، ورد الشبهات التي كانوا يبثونها بين الناس، وخصوصاً في الحقل العقائدي والكلامي.
وبهذه المواقف الحازمة من التيارات الملحدة دافع الإمام الكاظم (عليه السلام) عن العقيدة الإسلامية الصحيحة، ورد شبهاتهم وانحرافاتهم، وأنقذ المسلمين من فساد أفكارهم ومعتقداتهم الباطلة.
اضف تعليق