كل يوم... أجلس في المكان نفسه، تلك الأريكة الخشبية، لقد مللت الانتقال من مكان إلى آخر، ويئست من العثور على مكان دافئ، ما أن اعتاد على بلد وديار حتّى تداهمني عاصفة الرحيل، فاضطر للهجرة مرّةً أخرى، بحثاً عن وطن جديد وبيت جديد، وكأنني خلقت للترحيل، ﺷﺎءﺕ ﺍﻷقدار هذه المرة أن تكون رحلتي إلى مدينة مقدسة جمعت بين الحضارة الإسلامية والتراث، أعد الثواني المنبعثة من ساعة يدي، وكلما تزداد الثواني يزداد شوقي، ليت في وسعي تمزيق ما تبقى من المسافة لأرى ذلك المكان عبر تلك النافذة المظللة، وكيف يُتاح لي أن أصبر وانا أرى ضوء الشمس من تلك البساتين، الخير يفيض على شواطئ دجلة، لم أعد أعرف هل هي جنة عدن أم أنها أرض الأحلام، سحرتني بجمال مناظرها، وطيبة أرضها، فقد كنت يوماً ما أنظر من شاشة التلفاز لأرى كل تلك البساتين الشاسعة ذات النخيل الشامخة، لم أكن أتوقع يوماً أن الزمن يعيدني إلى أرض الوطن، بعد فراق طال كثيرا، فظننت أنني لا انتمي إليه، حتى تلك الهوية لم أكن املكها، اللهجة في الكلام الدارج تخونني أحيانا، نعم ومن دون خجل، أقصد نفسي! تمر السنون وتجري مثلما جرت قديماً على والدي ووالدتي، وانجرفت معها منذ صغري، آهٍ على تلك الأيام، قبة صفراء تلوح بشموخ الجبال، صحن تبارك الخالق في شأنه كأنه الفردوس في وسط المدينة، يقف الزائرون عندها، وبأيديهم حاجاتهم، فيارب المكان بحق صاحبة المكان... تأتي الإجابة سريعا خذوا حوائجكم.. إنها زينب ....
وعند باب رقية تحن القلوب.. وتدمع العيون، ويأسف الزمن.. صحن صغير لأميرة سرقوا قرطها فكانت مكانتها قبة بيضاء بلون السماء، يقدمون لصغر عمرها الالعاب، بين الأسواق قبرها ترقد بأمان.... قضيت طفولتي بين أزقة الشام القديمة، ونوافير الماء، وحديقة تشرين، وجبل قاسيون، والشام العدية، و يشب الصبا على رائحة الياسمين الدمشقي، لذة الطعام كبيرة رغم بساطتها ويا اجمل الصباح ومائدة الطعام الشامي قد جهزت، يا لها من أيام جميلة...
يعود الزمن أو يتقدم لأذهب لحياة أخرى تناديني، يوم واحد أستذكر فيه كل أيام تلك السنين التي عشتها بين أحضان سوريا ، نعم مازلت أذكرها جيدا، الجبال بدأت تبعد عني تلوح بشموخها، أيعقل؟ أن اترك بلدا قضيت سنين عمري بين أحضانه، كأنه من الخيال!، أيها القلب قلت لك لاتتعلق كثيراً، سيأتي اليوم الذي تفارقه كما فارقت من قبل شهادة ميلادك، مرت سبع ساعات ومازلت في الطريق، الذكريات تأتي بالوقت الضائع، فلولاها لما قضيت الساعات الطويلة في طريق البر، دخل غبار السنين في عيني فصبَّتْ دموعها على نافذة السيارة، ولم أكن أعلم أن تلك اللحظة ستكون الأخيرة في الغربة، مسافة تجبرك أن تودع بلدك الأب، وتستقبل أمك وتقبل أقدامها لتنال الجنة أليست الجنة تحت أقدام الأمهات... قطعة كتب فيها كربلاء المقدسة ترحب بكم.. يا الله.. كربلاء كم اشتقت اليك!!.
يوم يختصر كلّ الأيام
قلبي ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﻨﺒﺾ، ﻭﺟﺴدي ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺘﺤﺮﻙ، ﻭﺷﻔﺘﺎي ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﺘﻜﻠﻢ، ﻭﺑﺪﺃت ﺑﺎﻟﺒﻜﺎء، طفلة فقدت أمها، كربلاء كانت الأم، مضت أول ليلة بصعوبة بالغة علينا جميعا، وفي فجر اليوم الثاني ذهبنا إلى حضرة سيد الشهداء (ع). وقفنا ننتظر الدخول إلى الحرم، بين تسليم الأمانات والدخول في التفتيش، دخلت عند باب الرأس الكريم، وأحزان الدنيا تلف رأسي وذكريات مؤلمة تنهش قلبي وعقلي، تذكرني بمدى الألم الذي جرى عليه في يوم عاشوراء، صرخت ولطمت رأسي عند باب الصحن، أي جريمة فعلوا، ونفس الألم ولكن بدرجة أكبر وأكبر عند دخولي إلى المقتل، أي شعور تحملته وأنا أرى جسدا أمامي ممزق، دموعي الحارقة تنهمر قهرا على تلك الرزية.
لم تكن تتوقف الشهقات من شدة الألم وغصة الاكتئاب، ومن الحزن على فراقي لحبيبتي ومولاتي السيدة زينب عليها السلام، ومرت ساعات قليلة علي وأنا بتلك الحالة، وبعد الزيارة خرجنا جسدا لاروحا، وقفت امام الصحن الحسيني واذا بي أرى مكانا مرتفعا قليلا عن الصحن وله مدرجات، مقام مرتفع كتب عليه السلام على جبل الصبر، قبل الجميع دخلت اتلو آيات القرآن الكريم، مطمئن قلبي، لمن هذا المقام؟ ولماذا سمي جبل الصبر؟ كانت تجلس بجواري امرأة كبيرة، هذا المقام يسمى (التل الزينبي).
بجوارها جلست، ورغم ضياعي عن عائلتي، إلا أنها بكلامها الجميل كانت تتحدث معي عن أهمية المكان، الذكريات القديمة لهذا المكان المشرف، مع دموع لا تنقطع، وبمنتصف الأحزان بدأت ألاحظ وجود عائلتي تجلس بقربي، تنسحب المرأة بهدوء تاركة عبيرها الفواح، ثم بدأت أنتبه إلى طراز المقام، جلست باتجاه القبلة وبيدي مسبحة من تراب قبر الحسين، هنا وقفت على التل الزينبي، التل الجريح، وبدأت أنظر ناحية قبر الحسين التي جعلتني أتذكر وقوف زينب الحوراء على هذا التل، وللمرة الأولى أرى دموعها تنزل بغزارة، سبحان الله في كل مكان هنالك زينب والحسين، مع خليط من الدموع والصراخ، هنا وقفت زينب على أرض غير مستوية، وتكثر فيها التلال والمرتفعات، زينب تأتي وتقف على تل يشرف على أرض المعركة للاطلاع على حالة اخيها (الإمام الحسين عليه السلام) وأهل بيته ومجموعة خيرة من شهداء الطف الذين كانوا معه، بقعة مباركة من هذه الأرض تسمى (مقام تل الزينبية)، تقع في الجهة الغربية من الصحن الحسيني مقابل باب الزينبية، على مرتفع، ويقال في كثير من الروايات إن هذا التل كان يشرف على مصارع القتلى في واقعة الطف، حيث كانت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) تتفقد حال أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) عندما تأخر عليها ولم يرجع إلى المخيم لان الحسين كان كلما يقتل احد من أهله أو أصحابه يرجع إلى المخيم، فوقفت على هذا التل وهي تنادي أخي حسين يا بن أمي يا حسين إن كنت حيا فأدركنا وان كنت ميتا فأمرنا وأمرك إلى الله فهذه الخيل هجمت علينا.......، وتيمنا باقدام زينب الكبرى سمي التل باسمها.
مر هذا المقام بأربع مراحل إعمارية، فقد كان المقام في السابق عام (1920) محدثا من جدران احد البيوت القديمة في أعلى التل وفي الجدار فتحة مستطيلة عليها شباك برونزي في داخله وضع سراج لعدم وجود الكهرباء في ذلك الزمن.
وتابع الإعمار المرحلة الثانية فكانت في عام (1979) عندما تبرع صاحب الدار الملاصقة للمقام ودمجت مع المقام فتمت التوسعة وأجريت أعمال البناء والإصلاحات من قبل بعض المتبرعين وكانت البناية آنذاك تتكون من حرم ومصلى.
المرحلة الثالثة عام (1998) على الرغم من المنع وتوقيف العمل من قبل البعث الصدامي، إلا أن الله شاء بجهود الطيبين انجاز العمل الذي يراه الزائر حاليا عام (1999). وفي عام (2003) وهذه تعتبر المرحلة الرابعة بعد سقوط النظام المقبور تسلمت المرجعية المباركة إدارة العتبات المقدسة في كربلاء وتم ضم مقام التل الزينبي إلى إدارة العتبة الحسينية المقدسة وهو الان تحت إشرافها ورعايتها.
يحيط البناء من الأمام سياج حديدي بارتفاع (2) متر يرتكز على جدران من الطابوق مغلف بالمرمر بارتفاع (50) سم تتخلله دعامات كونكريتية مغلفة بالمرمر، السياج له ثلاثة أبواب، الباب الرئيسي يقابل باب الزينبية في العتبة الحسينية المقدسة وهو مخصص لخروج النساء والثاني بجوار سوق الزينبية من جهة الشمال لدخول النساء وآخر من الجهة الثانية لمدخل السوق من جهة اليمين لدخول وخروج الرجال.
اهتمام كبير يليق بالمقام
البناء من الخارج مغلف بالمرمر بارتفاع (3) متر والواجهة مغلفة بالكاشي الكربلائي وتعلوها كتيبة قرآنية من الكاشي الكربلائي كتبت عليها الآية القرآنية (إنما وليكم الله ورسوله....) وأعلى السطح توجد لوحتان ضوئيتان الأولى كتب عليها (السلام عليك يا زينب الكبرى) والثانية كتب عليها (السلام عليك يا بنت علي المرتضى).
أرضية الصحن مغلفة بالمرمر ويحتوي على كيشوانية وسلم يؤدي إلى حرم النساء، وهذا الصحن تم استحداثه وضمه بعد سقوط النظام المقبور وقامت بأعماله لجنة المشاريع في العتبة الحسينية المقدسة وتبلغ مساحة الصحن (180) متر تقريبا.
أما مساحة الحرم فهي (100) متر تقريبا وينقسم إلى جزأين بواسطة قاطع مزجج من الوسط، الجزء الأول منه مخصص للرجال والأخر للنساء، والحرم مغلف بالمرمر الأبيض بارتفاع (2) متر تعلوه كتيبة من الكاشي الكربلائي كتبت عليها مجموعة من الآيات القرآنية، وفوق الكتيبة مغلف بالمرايا ونقوش إسلامية ووسط الحرم دعامتان ترتكز عليها القبة.
المحراب بارتفاع (4.50) متر تقريبا مغلف بالمرمر الأخضر، يتوسطه شباك من الفضة ذو بابين، وتخريم في الوسط كتب عليه (الله اكبر) والبناء من الداخل له شباكان على شكل قوس إسلامي.
القبة من الخارج مغلفة بالكاشي الكربلائي الأخضر ومن الداخل مغلفة بالمرايا ولها ثلاث فتحات متخذة للتهوية. عندما كان الحسين يلفظ انفاسه الاخيرة، كان قلبه مطمئناً بان أخته زينب ستحمل رايته، حتى لا يبقى مكان لايعرف زينب بنت علي.
ولا امرأة واحدة لم تسمع بقصة زينب عليها السلام، قلب الحسين في قالب امرأة كانت كعلي بنطقها، وكالزهراء بعفتها، وكخديجة بكرمها، فكانت الأم والأخت للحسين عظماء وقفوا وخلدوا أسمائهم ولكن لم يخلد لهم مقام لتراب أقدامهم، فقط السيدة زينب عليها السلام وبذلك اثبتت ان المرأة قادرة على ان تفعل ما يفعله الرجال، واحياناً اكثر مما يفعل الرجال ايضاً.
زينب حجة الله على كل نساء الارض: ان لا يسكتن على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم وان يتحملن مسؤلياتهن مثل الرجال، ومع الرجال، وبعد الرجال.
فالمرأة راعية مستقلة لرعيتها ومسؤولة مستقلة عن رعيتها ايضاً. لقد اثبتت زينب ان امرأة واحدة يمكنها ان تتحدى، باذن الله، امبراطورية باكملها، وان تساهم في تقويضها ايضاً. كانت مريم بنت عمران حاملة آلام السيد المسيح. اما زينب بنت علي(ع) فكانت حاملة آلام أهل البيت جميعاً.
ثلاث نساء حملن مع ثلاث رجال اثقال آخر الديانات وخاتمة النبوة خديجة مع النبيّ (ص) وفاطمة مع عليّ (ع). وزينب مع الحسين (ع).
ولا يعلم إلا الله ماذا كان يحدث لدينه ان لم تكن خديجة مع رسول الله، وفاطمة مع الامام علي،
وزينب مع الامام الحسين؟ كلّما تراكمت عليها عوامل اليأس، ازداد عندها الأمل بالله، وعندما عيرها يزيد قائلاً «كيف رأيت صنع الله»؟ قالت: ما رأيت إلّا جميلاً...
أغمضت عيني بأمان وقلت الحمد لله في كل مكان السيدة زينب لها أثر وخطوات.. ودعت قبرا واحتضنت جبلا.. فهنا آثار قدم وهنالك جسد.. كلاهما تركا أثر دل على أنها زينب .
اضف تعليق