كانت مدرسة الإمام الصادق تتميَّز، إلى جانب عمقها العلمي، بأخلاقها الرفيعة وسلوكها القويم؛ وهو انعكاس طبيعي لشخص إمامها وما عُرف به من مكارم الأخلاق. فكما كان الإمام الصادق وريثًا للعلم المحمدي، كان أيضًا وارثًا للأخلاق النبويَّة التي تجسَّدت في أقواله وأفعاله وتعاملاته؛ فمدرسته كانت مركزًا تربويًّا يُعنى بتزكية النفوس قبل ملء العقول...
تتميَّز مدرسة الإمام الصَّادق (عليه السلام) بجملةٍ من الخصائص الفريدة التي شكَّلت منهجًا علميًّا متكاملًا تحرَّك الإمام (عليه السلام) من طريقه، واستطاع عبره أن يجذب إليه طلَّاب العلم والمعرفة من مختلف الآفاق، وقد تجلَّى هذا المنهج في عمق الطرح، ودقَّة الاستدلال، وسعة الأُفق المعرفي، وحين يُقارَنُ هذا النموذج المعرفي الرَّفيع بما نجده في المدارس التي انحرفت عن فكر هذا الإمام العظيم (عليه السلام)، يظهر جليًّا الفارق الكبير؛ إذ تبدو السطحيَّة والتَّقليد الأعمى سمة بارزة على كثير من نتاج تلك المدارس، التي افتقرت إلى العمق التَّحليلي والرؤية العلميَّة الشموليَّة. إنَّ غياب التأصيل العقلي والدِّقة المنهجيَّة في تلك المدارس جعل من معارفها علومًا عابرة، تفتقر إلى التَّأثير والجاذبية المعرفيَّة.
وعلى النقيض تمامًا، حينما نسلِّط الضوء على ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، نجد أنَّ مسار التأصيل العلمي لديه يرتكز على الدقَّة المتناهية، والعمق الفكري، والغوص في جذور المسائل وأُسسها المعرفيَّة؛ الأمر الذي يمنح البناء الفكري قوةً راسخة، وقدرة على مقاومة التَّحريف والتَّآكل عبر الزَّمن؛ فالفكر الذي يستند إلى قواعد متينة، لا تهزُّه رياح التَّغيرات ولا تنال منه الشُّبهات.
أمَّا الفكر السطحي، فهو على العكس من ذلك تمامًا؛ لا يملك عناصر الديمومة ولا يمتلك بنيةً تحميه من الانهيار؛ لأنَّ افتقاده إلى الجذور المعرفيَّة العميقة يجعله عرضةً للتشويه والتَّقلُّب، ولا يستطيع أن يصمد أمام النَّقد أو المشاكل الفكريَّة. والمنصف، حتَّى وإن لم يكن من أتباع هذه المدرسة، لا يسعه إلَّا أن يُقِرَّ بوضوح الفارق الكبير بين فكرٍ مؤصَّلٍ محكم، وآخر هشٍّ زائل.
لم نكن حاضرين في العصر الذي كانت فيه إشراقات الإمام الصادق (عليه السلام) وإضاءاته العلميَّة تملأ الأفقين وتُنير عقول الباحثين؛ لكنَّ نوره لم يُحبس في زمنه؛ وإنَّما تسرَّبت ومضاته عبر الدهور، متجاوزةً قيود الزَّمن وحدوده، لتصل إلينا بوصفها نوافذ مفتوحة على عوالم من المعرفة الربَّانية والوعي الرسالي؛ ومن خلال هذه الإشعاعات الخالدة نستطيع أن نطلَّ على ذلك الفكر العميق ونستكشف أبعاده اللامتناهية.
ومن أروع ما يمكن أن يقودنا في هذه الرحلة نحو فهم الفكر الأصيل، هم العلماء الربَّانيون الذين حملوا على عواتقهم أمانة هذا الميراث العلمي الطَّاهر، فاستناروا بنوره وتفحصوا أسراره بعمق وتأمُّل؛ ليكونوا بحقٍّ قنوات حيَّة تربط بين حكمة الإمام (عليه السلام) وبين أجيال الأمَّة المتعاقبة؛ فبهم تُصان المعارف، وبتوجيههم تُفهم الحقائق، ومن خلالهم يستمر إشعاع تلك المدرسة في الوجدان الإسلامي إلى يومنا هذا.
لقد مضى على زمن الغيبة وإلى يومنا هذا عشرات الآلاف؛ بل مئات الآلاف من المجتهدين والكتَّاب والباحثين الذين كرَّسوا أعمارهم في سبيل الغوص في أعماق هذا الفكر الأصيل، محاولين الاقتراب ما أمكن من منبع ذلك الإشعاع النوراني الذي أطلقه الإمام الصادق (عليه السلام) وأمثاله من أئمة الهدى (عليهم السلام)، ولم يكن سعيهم مجرَّد تراكم معرفي، وإنَّما هو مسار تحقيقي دقيق يتطلَّب سعة أفق، وصدق نيَّة، وشغفًا بالوصول إلى الحقيقة الأصيلة.
وعلماؤنا الأعلام –عبر القرون– لم يدَّخروا جهدًا في تتبُّع آثار هذا الفكر العظيم؛ فهم الأمناء عليه، والحملة الصادقون له، ومن الجدير بنا أن نستنير بهم ونتَّخذ من نهجهم دليلًا ومرشدًا في سعينا لفهم الحقائق واستيعاب العمق؛ إذ إنَّ من لا يسلك طريقهم، يوشك أن تزلَّ به القدم أو يتوه في متاهات الفكر السطحي.
إنَّ النهج السليم في استخلاص النظريات واستنباط الأحكام، هو أحد المرتكزات الكبرى التي أولى لها الإمام الصادق (عليه السلام) اهتمامًا بالغًا، فأسهب في بيانها وبيَّن معالمها بأسلوب علمي دقيق، ليضع بين يدي طلَّاب العلم مفاتيح الاجتهاد وأدوات الفهم الصحيح، ولم يكن هدف الإمام (عليه السلام) أن يحتكر المعرفة؛ وإنَّما يفتح أبوابها على مصراعيها أمام كلِّ مريدٍ للعلم، ليكون كلُّ ساعٍ إليه قادرًا على بلوغ مدارج الفهم والبصيرة؛ ولهذا، لا يثير دهشتنا ما يرويه أهل التراجم والرجال، ومؤرّخو الحديث، والمشتغلون بتأريخ الحوزات العلمية، من أن عدد من تتلمذ على يد الإمام الصادق (عليه السلام) بلغ نحو أربعة آلاف راوٍ، وعالم، تتلمذوا عليه مباشرة، وتبعهم عدد كبير ممَّن تلقى عنهم بالواسطة. وهذا الامتداد العلمي كان نتيجة منهجية دقيقة رسَّخها الإمام (عليه السلام)؛ ليكون العلم منارًا يهتدي به كلُّ من أراد أن يغترف من هذا البحر الزَّاخر.
وصل الإمام الصادق (عليه السلام) إلى مقامٍ رفيعٍ جعـل الموافق والمخالف معًا يعترفون بعلمه، ويمدحون علو منزلته، ويقرُّون بتفرُّده في ساحات الفكر والمعرفة، وهذا الاتِّفاق النَّادر بين من والاه ومن خالفه يُعدُّ دليلًا بيّنًا على عظمة الإمام (عليه السلام)، وعلى أنَّ علمه كان نورًا مبذولًا لكلِّ من ابتغى الحقيقة وسعى لنيلها بإخلاص؛ ومن هؤلاء:
- أبو العوجاء، قال: "ما هذا ببشر، وإن كان في الدُّنيا روحاني يتجسَّد إذا شاء ظاهرًا، ويتروَّح إذا شاء باطنًا فهو هذا"(1).
- قال مالك بن أنس: "كنت أرى جعفر بن محمَّد وكان كثير الدُّعابة والتَّبسُّم؛ فإذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وآله) اخضر واصفر، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلَّا على ثلاث خصال: إمَّا مصليًّا وإمَّا قائمًا وإمَّا يقرأ القرآن، وما رأيته يحدِّث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلَّا على الطهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد والزُّهاد الذين يخشون الله)(2).
وقال أيضًا: "وما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمَّد الصادق علمًا وعبادةً وورعًا"(3).
- قال المنصور الدوانيقي: "إنَّ جعفرا كان ممَّن قال الله فيه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (4)، وكان ممَّن اصطفى الله وكان من السَّابقين بالخيرات"(5).
- قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت: "لولا السَّنتان لهلك النُّعمان"(6).
- قال ابن أبي العوجاء للمفضل الذي تهجَّم عليه في إحدى المناظرات: "إن كنت من أصحاب جعفر بن محمَّد الصَّادق، فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش خطابنا، ولا تعدَّى في جوابنا. وأنَّه الحليم الرزين، العاقل الرَّصين، لا يعتريه خرق، ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا، حتَّى إذا استفرغنا ما عندنا، وظنننا قطعناه، دحض حجَّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير، يلزمنا الحجة ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردًّا، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه"(7).
وقد عمد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى نشر علوم الرَّسول الأعظم محمَّد وآل محمَّد (عليهم السلام) حتَّى قال الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) في الإرشاد: "ونقل النَّاس عنه -أي عن الإمام الصادق (عليه السلام)- من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحدٍ من أهل بيته العلماء ما نُقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فإنَّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثّقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل"(8)؛ ومن خلال هذه المقدِّمة، ندرك أنَّ لمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) صفات ومميزات عدَّة، منها:
الصِّفة الأولى: دعم الكفاءات.
من السَّهل أن تكون المعلومة متاحة، ومن السَّهل أيضًا أن يكون لدى العالم قدرة على إيصال هذه المعلومة؛ لكنَّ الأمر الأكثر تعقيدًا هو أن يستطيع العالم أن يكتشف الأفراد الذين يحيطون به، وأن يلحظ المواهب الكامنة فيهم، ثمَّ يعمل على تقريب هذه المنظومة إلى نفوسهم، ليحقق التفاعل العميق مع تلك الطاقات البشريَّة، وهذه العمليَّة من الخصائص التي تميِّز العلماء المخلصين، الذين لا يكتفون بنقل المعرفة فحسب، وإنَّما يسعون إلى تحفيز العقول وتوجيهها نحو آفاق أوسع.
وفي المقابل، فإنَّ العديد من الطاقات التي تملك القدرة على إحداث نقلة نوعية، تظل محبوسة في حدود القوَّة الخام؛ حيث يتمُّ استهلاكها وتبديدها عبر الزَّمن، لتضمحل وتختفي دون أن تُسهم في تطور أو تقدُّم حقيقي، وهذا يعود في الأساس إلى تأخر عملية اكتشاف القوَّة الكامنة في هذه النُّفوس، ممَّا يجعلها تنحرف عن مسارها الصَّحيح وتستهلك طاقاتها في مسارات عشوائية، تتلقفها تيارات الحياة المختلفة.
لقد شكَّلت هذه المسألة إحدى المصاعب الكبرى التي واجهها أرباب المسيرة الإسلاميَّة في العصور المتأخرة؛ إذ كانت القوى العقليَّة والإبداعيَّة في الأمَّة تتعرَّض للإهمال والتَّهميش. وقد استطاع الغرب أن يسلِّط الضوء على هذه الثغرة، ويستفيد منها لصالحه؛ ليتمكَّن من استدراج العقول العربيَّة في القرون الثَّلاثة الماضية، مستغلًا هذا الضَّعف وهذه الفجوة.
فلا عجب إن تصفَّحت صفحات التَّاريخ المعاصر ووجدت أنَّ وراء العديد من الاختراعات الكبرى عقولًا عربيَّة أصيلة، أو إسلاميَّة في إطار أوسع؛ عقولٌ خُطِّط لتهجيرها بعناية، فاستقرَّت في أوطان صُنعت لتكون موطنًا لها. وحتَّى أولئك الأدباء الذين هاجروا إلى تلك الدول الناشئة، سرعان ما وجدوا ذواتهم هناك، ولامست أرواحهم ضالتهم؛ لأن البيئة انسجمت مع تكوينهم الذَّاتي والفكري والاجتماعي والثَّقافي. وأمَّا الإمام الصادق (عليه السلام) فقد أسّس لقاعدة راسخة؛ بأن يستفيد المسلمون من طاقات المسلمين أنفسهم، عبر مشروعٍ معرفي ينتقل من جيل إلى جيل؛ ولهذا ترى الإمام يستقطب نخبة من أصحابه، ويفيض عليهم من بحور العلم والمعرفة؛ لأنَّه كان يعلم أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يمكن أن يكون نواةً لتغيير واقعٍ بأكمله.
الصِّفة الثّانية: تعدُّد المواقع العلميَّة.
لم يكن الامتداد العلمي والفكري لمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) محصورًا بين المدينة المنورة والكوفة كما هو المألوف في الذهنيَّة العامَّة؛ وإنَّما تجاوز ذلك ليشمل آفاقًا أوسع ومسارات متعدِّدة، وقد ركب سفينة الإمام الصادق (عليه السلام) رجالٌ مميَّزون، يمتلكون قدرات عالية في التَّنظير والتَّأليف، وحملوا معارفه إلى أقصى الأرض شرقًا وغربًا، ولقد كانت مدرسةً راسخة، قويَّة البنيان، دلَّت عليها آثارها في كتب العلم، ونتاجاتها في ميادين الأدب والمعرفة والاختصاص، فضلًا عن انعكاسها في العمارة والفكر الاجتماعي.
ولا تكاد تجد أثرًا حضاريًا في بقعة من بقاع العالم الإسلامي إلَّا وتلمس فيه بصمة هذه المدرسة الجعفريَّة؛ وهذا الامتداد إنَّما كان ثمرة طبيعية للهجرة القسرية التي تعرَّض لها أتباع الإمام (عليه السلام)، وللاضطهاد الذي تعرَّضوا له؛ فكان الانتشار يحمل في طيَّاته رسالة بقاء وصمود. كما أنّه امتداد نوعي لا كمِّي، وتأثيره غالبًا ما تجلَّى في النُّخب العلميَّة والفكريَّة، وفي مؤسسات التَّعليم والدَّعوة، وليس فقط في الانتشار الشَّعبي؛ ومن هذه النقطة نستطيع القول: إنَّ مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) كانت ولا تزال منارةً علميَّةً استثنائيَّةً، حملت مشعل الوعي الإسلامي الأصيل عبر العصور والحدود.
قال ابن فتال في روضة الواعظين: "وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرُّواة عنهم من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات وكانوا أربعة آلاف رجل"(9).
وقال ابن شهر آشوب في المناقب: "ينقل عنه (عليه السلام) من العلوم ما لا ينقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات وكانوا أربعة آلاف رجل"(10).
وقال الشهيد في الذكرى: "إنَّ أبا عبد الله جعفر بن محمَّد الصادق (عليه السلام) كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف، ودوَّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام"(11). وقد أحصاهم بعض العلماء بستة آلاف رجل، علمًا بأنَّ تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) كانوا أكثر من عشرين ألفًا. ولا نستغرب ذلك؛ والمعروف أنَّ الإمام (عليه السلام) كان يحثُّ أصحابه على التفقُّه ونشر العلوم حتَّى قال: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتَّى يتفقَّهوا في الحلال والحرام"(12)، كناية عن أهميَّة العلم وضرورة التَّعلُّم.
وعن المفضَّل بن عمر، قال: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عَلَيْكُمْ بِالتَّفَقُّه فِي دِينِ اللَّه ولَا تَكُونُوا أَعْرَاباً؛ فَإِنَّه مَنْ لَمْ يَتَفَقَّه فِي دِينِ اللَّه لَمْ يَنْظُرِ اللَّه إِلَيْه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولَمْ يُزَكِّ لَه عَمَلًا"(13).
وقد نقل أهل الرجال أنَّ أبان بن تغلب وحده روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث، ومحمَّد بن مسلم ستة عشر ألف حديث (14).
وإلى اليوم آثار الإمام (عليه السلام) موجودة في كلِّ العالم، ومازالت البشريَّة تستفيد من علوم تلامذته في شتَّى الأمور، ومنهم جابر بن حيان الذي كان من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) حتَّى قال ابن خلكان لدى ترجمة للإمام (عليه السلام): "له كلام في صنعة الكيمياء والزَّجر والفأل، وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيان الصوفي الطرطوسي قد ألف كتابًا يشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق (عليه السلام) وهي خمسمائة رسالة"(15).
الصِّفة الثالثة: الاستناد إلى مصادر التَّشريع الأصيلة.
من أبرز خصائص مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) اعتمادها الرَّاسخ على مصادر التشريع الأصيلة، وفي مقدِّمتها القرآن الكريم، الذي يُعدُّ المرجع الأعلى في استنباط الأحكام وتثبيت المبادئ، إلى جانب السنَّة النبويَّة الشريفة التي وردت بطرق معتبرة، نقلها الإمام (عليه السلام) عن آبائه الكرام (عليهم السلام) عن جدِّه المصطفى محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وقد تميَّز هذا المنهج بالدقَّة في التَّمييز بين الصَّحيح والمشوَّه من الرِّوايات، ممَّا منح مدرسته مصداقية علميَّة عالية، وجعلها إحدى أقوى المدارس في ضبط السنَّة وفهمها ضمن الإطار القرآني العام، من دون أن تنفصل عن الامتداد الرِّسالي المتصل بالعترة الطاهرة (صلوات الله عليهم)؛ قال الإمام الصادق (عليه السلام): "نَحْنُ خُزَّانُ عِلْمِ اللَّه نَحْنُ تَرَاجِمَةُ أَمْرِ اللَّه نَحْنُ قَوْمٌ مَعْصُومُونَ أَمَرَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى بِطَاعَتِنَا ونَهَى عَنْ مَعْصِيَتِنَا نَحْنُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى مَنْ دُونَ السَّمَاءِ وفَوْقَ الأَرْضِ"(16).
وعنه (عليه السلام): "إِنَّ عِنْدَنَا مَا لَا نَحْتَاجُ مَعَه إِلَى النَّاسِ وإِنَّ النَّاسَ لَيَحْتَاجُونَ إِلَيْنَا وإِنَّ عِنْدَنَا كِتَاباً إِمْلَاءُ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) وخَطُّ عَلِيٍّ (عليه السلام) صَحِيفَةً فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وحَرَامٍ وإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَّا بِالأَمْرِ فَنَعْرِفُ إِذَا أَخَذْتُمْ بِه ونَعْرِفُ إِذَا تَرَكْتُمُوه"(17).
إنَّ علم أهل البيت (عليهم السلام) يستند إلى ميراثٍ خاص ومتنفّسٍ معرفيّ متصل بالوحي والنبوّة؛ ولهذا، لا يُستغرب أن نجد أصول مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) متشعِّبة إلى حدٍّ لا تبلغ إليه سائر المذاهب، حتَّى إن أقرب المذاهب إليها لا يحظى بنسبة 25% من مجموع هذه الأصول؛ وهذه الحقيقة العلميَّة تكشف الفارق الكبير بين مناهج الاستدلال في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وبين سواها؛ ولذلك ندعو كلَّ من ينتمي إلى مذهب آخر، أن يتحلَّى بالموضوعيَّة، ويتجرَّد عن العصبيَّة، ويجمع بين أصول مذهبه وأصول مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ثمَّ يقارن ويُمحِّص، ليخرج بالحكم المنصف.
أمَّا على مستوى الفروع؛ فيكفي أن نُشير إلى إنجاز علمي فريد تحقَّق على يد المرجع الكبير سماحة السيد محمَّد الحسيني الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه)، صاحب أكبر موسوعة فقهيَّة في التَّاريخ، التي استعرَّض فيها ألاف المسائل الفقهيَّة، وأكثرها يستند إلى الإمام جعفر بن محمَّد الصادق (عليه السلام)، وهذا الآلاف من المسائل شاهد على عمق المنهج، وغزارة التراث، ودقَّة البناء الفقهي الذي أرسته مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) عبر القرون.
الصِّفة الرابعة: إرساء دعائم التخصُّص في العلم.
في المرحلة التي سبقت مدرسة الإمام محمَّد الباقر والإمام جعفر الصادق (عليهما السلام)، كانت العلوم الإسلاميَّة في حالة من التَّشتت؛ إذ لم تكن هناك مدرسة علميَّة متكاملة تُؤسِّس لمناهج رصينة في الفهم والاستنباط، وكان غالب النَّاس ينهلون من هذا العالم شيئًا، ومن ذاك الراوي شيئًا آخر، فيتكوّن لديهم رصيد معرفي متفرق، ومع ذلك يُشار إلى أحدهم بمصطلح "العَلَّامة" حسب ما يُقال اليوم، على الرَّغم من افتقاده للأسس المنهجية.
في تلك البيئة، لم يكن التَّخصص واضحًا، وكان الشخص يُعَدّ محدثًا، ومؤرخًا، ومترجمًا، وربما فقيهًا، في آنٍ واحد، من دون وجود معيار يضبط المراتب العلميَّة أو يسندها إلى أصول دقيقة. وأمَّا حين نأتي إلى مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، فإننا نجد تحولًا جذريًّا في البناء العلمي، إذ نجد الإمام (عليه السلام) يُنشئ رجالًا، ويؤسّس عقولًا ناضجة، قادرة على حمل أعباء العلم والدين بمسؤوليَّة ووعي عميق؛ وكان في بعض الأحيان يمدحهم ويبيِّن فضائلهم؛ وكان يقول (عليه السلام): "إِنَّ أَصْحَابَ أَبِي كَانُوا زَيْناً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا؛ أَعْنِي زُرَارَةَ وَمُحَمدِ بْنَ مُسْلِمٍ وَمِنْهُمْ لَيْثٌ اَلْمُرَادِيُّ وَبُرَيْدٌ اَلْعِجْلِيُّ، هَؤُلاَءِ اَلْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوَّامُونَ بِالْقِسْطِ وَهَؤُلاَءِ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ"(18).
ويقول (عليه السلام) في رواية أخرى: "بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ بِالْجَنَّةِ بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اَلْعِجْلِيُّ وَأَبُو بَصِيرٍ لَيْثُ بْنُ اَلْبَخْتَرِيِّ اَلْمُرَادِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَزُرَارَةُ، أَرْبَعَةٌ نُجَبَاءُ أُمَنَاءُ اَللَّهِ عَلَى حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، لَوْ لاَ هَؤُلاَءِ اِنْقَطَعَتْ آثَارُ اَلنُّبُوَّةِ وَاِنْدَرَسَتْ"(19).
وهذه الكلمات هي شهادة علمية عالية تدلُّ على أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) أسَّس مدرسة تُربِّي منْ يحملون النبوة في آثارها، ويحفظون الشريعة في حدودها، ويُحيون علوم آل محمد (عليهم السلام) بأمانة وانضباط؛ ومن هنا، نفهم أن مدرسة الإمام كانت مشروعًا معرفيًا عظيمًا لإنقاذ الدين من الضياع، وحفظ الشريعة من التحريف، وبناء منظومة فكريَّة متماسكة تُضيء الدَّرب للأجيال القادمة.
الصِّفة الخامسة: الأخلاق الحسنة.
لقد كانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) تتميَّز، إلى جانب عمقها العلمي، بأخلاقها الرفيعة وسلوكها القويم؛ وهو انعكاس طبيعي لشخص إمامها وما عُرف به من مكارم الأخلاق. فكما كان الإمام الصادق (عليه السلام) وريثًا للعلم المحمدي، كان أيضًا وارثًا للأخلاق النبويَّة التي تجسَّدت في أقواله وأفعاله وتعاملاته؛ فمدرسته كانت مركزًا تربويًّا يُعنى بتزكية النفوس قبل ملء العقول.
وقد ورث الإمام (عليه السلام) أخلاق جدِّه المصطفى محمَّد (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وسائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، فكان الصِّدق، والحِلم، والتواضع، وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، سمات بارزة في شخصه، انعكست على تلامذته وأصحابه؛ ولهذا، لم يكن التميز في مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) مقتصرًا على غزارة العلم ودقة الفهم؛ وإنَّما كانت الأخلاق جزءًا لا يتجزأ من التكوين العلمي؛ لأن الإمام كان يرى أنَّ العالِم الحق هو من يُترجم علمه إلى خلق، ويجعل من معرفته زادًا للارتقاء لا وسيلة للجدال والتَّعالي.
ومن هنا، نفهم كيف أصبحت هذه المدرسة مرجعًا في التَّهذيب كما هي مرجع في الفقه والعقيدة، وكيف أن كثيرًا من الناس انجذبوا إليها ليس فقط لقوة الدليل، بل لرقيّ السلوك، وجمال التعامل، وصدق الإخلاص الذي كان يفيض من قلب الإمام وأتباعه؛ وهذه لمحة عن أخلاقه (عليه السلام):
* عفوه (عليه السلام):
عن حماد اللحام، قال: أتى رجل أبا عبد الله فقال: إنَّ فلاناً ذكرك، فما ترك شيئًا من الوقيعة والشتيمة إلَّا قاله فيك!
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للجارية: "إيتيني بوضوء". فتوضَّأ ودخل فقلت في نفسي: يدعو عليه. فصلَّى ركعتين، فقال: "يا رب، هو حقي قد وهبته له وأنت أجود منِّي وأكرم، فهبه لي ولا تؤاخذه بي ولا تقايسه".
ثمَّ رقَّ فلم يزل يدعو فجعلت أتعجَّب (20).
ولمَّا حضرته (عليه السلام) الوفاة قال: "أعطوا فلانًا سبعين دينارًا". فقيل له: أ تعطي رجلًا حمل عليك بالشفرة!
قال: ويحك أما تقرأ القرآن: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) (21)"(22).
* عطاؤه (عليه السلام):
قال الهياج بن بسطام: "كان جعفر الصادق (عليه السلام) يُطعم حتَّى لا يبقى لعياله شيء"(23).
وقال هشام بن سالم: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا أعتم وذهب من الليل شطره، أخذ جرابًا فيه خبز ولحم ودراهم فحمله على عنقه، ثمَّ ذهب إلى أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه. فلمَّا مضى أبو عبد الله (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان أبو عبد الله (24).
وعن معلى بن خنيس قال: خرج أبو عبد الله (عليه السلام) في ليلة قد رشت وهو يريد ظلة بني ساعدة، فأتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء. فقال: "بسم الله اللهم ردّ علينا".
قال: فأتيته فسلَّمت عليه.
قال: فقال: "معلى!".
قلت: نعم جعلت فداك.
فقال (عليه السلام) لي: "التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إليَّ".
فإذا أنا بخبز منتشر كثير، فجعلت أدفع إليه ما وجدت، فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز.
فقلت: جعلت فداك، أحمله على رأسي.
فقال (عليه السلام): "لا أنا أولى به منك؛ ولكن امض معي".
قال: فأتينا ظلة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف والرغيفين حتَّى أتى على آخرهم ثم انصرفنا.
فقلت: جُعلت فداك، يعرف هؤلاء الحق؟
فقال: "لو عرفوه لواسيناهم بالدقة"(25).
وقال أبو جعفر الخثعمي: أعطاني الصادق (عليه السلام) صرة.
فقال لي: "ادفعها إلى رجل من بني هاشم ولا تعلمه أني أعطيتك شيئًا". قال: فأتيته. قال: جزاه الله خيرًا ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش به إلى قابل؛ ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله (26).
* صبره (عليه السلام):
تجرَّع الإمام الصادق (عليه السلام) كبقية أجداده (عليهم السلام) الغصص والويلات التي تشيب الرأس من قبل الحكومات الظالمة، إلَّا أنَّه (عليه السلام) كان يصبر ويصبِّر عياله وأهله على البلاء ويبشرهم بما للصابرين من الأجر والثواب؛ عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: "نُعي إلى جعفر بن محمَّد (عليه السلام) إسماعيل بن جعفر وهو أكبر أولاده وهو يريد أن يأكل وقد اجتمع ندماؤه فتبسَّم. ثمَّ دعا بطعامه وقعد مع ندمائه، وجعل يأكل أحسن من أكله سائر الأيام ويحث ندمائه، ويضع بين أيديهم ويعجبون منه لا يرون للحزن في وجهه أثرًا.
فلمَّا فرغ قالوا: يا بن رسول الله، لقد رأينا عجبًا أصبت بمثل هذا الابن وأنت كما نرى؟
قال: وما لي لا أكون كما ترون! وقد جاء في خبر أصدق الصادقين أني ميت وإياكم.
إنّ قومًا عرفوا الموت فجعلوه نصب أعينهم، فلم ينكروا ما يخطفه الموت منهم وسلموا لأمر خالقهم عز وجل"(27).
وهكذا يتَّضح أنَّ مدرسة الإمام جعفر بن محمَّد الصادق (عليهما السلام) كانت مشروعًا معرفيًّا متكاملًا، أسّس لنهجٍ علميّ رصين، وقاعدةٍ فكريةٍ ثابتةٍ لا تزال تنير دروب الباحثين عن الحقيقة حتَّى يومنا هذا. ولقد اتَّسمت هذه المدرسة بعمقها المعرفي، واتِّساع أفقها، وقدرتها الفائقة على احتضان الكفاءات، وتوجيهها في المسارات الصحيحة، فضلًا عن انتشارها الواسع الذي تخطَّى الجغرافيا ليصوغ معالم التأثير الحضاري والفكري على مدى قرون.
وما هذا الامتداد الشامل إلَّا انعكاس لجذورٍ راسخة في القرآن والسنة، ومنهجٍ علميّ أصيل لا يعرف الجمود ولا التقليد، يفتح أبوابه للعقل والنقاش والبحث الحرّ في رحاب الثوابت. وإنَّ الاستمرار في التعرُّف إلى هذه المدرسة وخصائصها، هو في ذاته مشاركة في حفظ هذا التراث العظيم، وحماية له من محاولات التزييف أو الطمس، وتفعيل لدوره في واقعنا المتغيّر، بما يضمن استمرارية العطاء وانبعاث النور في الأجيال القادمة.
فالإمام الصادق (عليه السلام) لم يكن عالمًا فحسب؛ بل كان مربيًا وموجِّهًا ومؤسسًا لصرحٍ معرفيّ شامخٍ، تجسَّدت فيه معاني الإمامة في بعدها العلمي والروحي والاجتماعي. ومن واجبنا، في ظلّ ما نواجه من أزمات فكريَّة وثقافيَّة، أن نعيد تفعيل مفردات هذه المدرسة، ونستلهم منها مناهج العمل والبناء الحضاري، إيمانًا منَّا بأنَّ النور الذي أضاءه الإمام (عليه السلام)، لا يزال قادرًا على أن يهدي البشريَّة إلى سبل النَّجاة والكرامة.
اضف تعليق