تجسدت العدالة الإنسانية في علي بن أبي طالب حتى صار هو العدل، فمتى ما حلَّ تبدد الظلم ووُضع الحق في نصابه وانتصف الناس من حقوقهم، فلا ينظر لألوانهم ولا لدينهم ولا لعقيدتهم فشهد له أعداؤه وأحباؤه، فكل الناس عنده لأمٍّ وأب، لا فرق بين أعجمي وعربي إلَّا بالتقوى...

 يُعدُّ عظماء العالم منذ بزوغ فجر السلالات وحتى يرث الله الأرض ومَن عليها؛ كالدُّرر بين أكوام الحصى يُشار إليهم بالبنان ويطغو بريقها على خفوت ضياء غيرها فيبرز إمَّا بالتمحيص والتدقيق أو بالعطاء الذي يُضفي على لمعانها رونقاً وجمالا.

 فكلُّ أمَّة تفخر بعظيمها وتقدِّمه بين يدي حاجاتها لتستشفع به من هول الدنيا أو تستسقي به لبان المعرفة ومدرار السماء، والأمَّة التي لا تحتفي بعُظمائها؛ أمَّة يليق بمثلها التأبينُ، فقد صاغ الله تعالى عظماء الدنيا من نوره، وحباهم بعطفه، ومنَّ عليهم بعلمه، فامتشقوا سلاح الهداية، ودخلوا هيجاء الجهل وظلمات التخلف؛ لينتشلوا الناس من الضلالة وحيرة الجهالة، ولم تأخذهم بالإيثار لومةُ لائم؛ لذا صقل الإسلام شخصيَّة أعطاها الله ما لم يُعطِ أحداً من العالمين، فطأطأ كل شريفٍ لشرفه، وبخع كلُّ متجبرٍ لطاعته، فكان الحامي والمدافع والمضحي عن الإسلام وأهله منذ البعثة وحتى الاستشهاد.

ممدوح السماء

 خصَّه القرآن الكريم بمدحٍ لم يحصل عليه كُبَّار الصحابة، ودافع عنه، وأمر بطاعته، وولَّاه الأمر وأخرج مبغضه عن دائرة الإسلام، فقال الله تعالى فيه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(التوبة/19)، إذ شهد الله له بالإيمان والجهاد والهداية، وانتصر له على الذين حاجُّوه وكانوا يفخرون. 

 وليس هذا فحسب؛ فقد جعله الله مثالاً يُحتذى، ومناراً للرشد وسبيلاً للهداية، ورمزاً للتقوى، فقال فيه: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ)السجدة18، فكان من الصعب اللحوق به ومجاراته في الإيمان حتى صار الإيمان نفسه وتشرَّب به فكان مصداقه التشخيصي فقال تعالى فيه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)الحجرات7، فكان أهله ومعدِنه وأصله وفرعه ومأواه ومنتهاه، وأصبح الميزان الأمثل الذي يُعرف به المؤمن من المنافق، فقال فيه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (لا يُحبُّكَ إلَّا مؤمنٌ ولا يُبغضكَ إلَّا مُنافِقٌ)، وجعله الله لسان الصدق في الآخرين وأذهب عنه الرجس وطهره تطهيرا، فهو صراطه المستقيم، وسيفه القويم، وتلميذه العليم، ولا يجوز أحد على الصراط إلَّا بإمضائه وموافقته بالجواز...

ربيب النبوَّة

 ارتشف العلم والحلم والجود والكرم والشجاعة والبسالة والثبات والغيرة والسؤدد من أنامل النبوَّة منذ أن انشق الجدار وخرجت أمُّه تحمله بين ذراعيها حتى ابتلَّ ريقه بريق النبي، ففتح عينه بنور الله الأوَّل واستقبل قبلة الله بالحقيقة الأزلية وشهد له بالنبوَّة، فأدار رحله من أمِّه وأبيه إلى رحل رحمة الله الكبرى، فكان يأكل ما يمضغه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)، فابتنى عوده، واستوى سوقه، واشتدَّ ساعده، فكان يسير خلفه سير الفصيل إثر أمِّه، فلم يُفارقه ولم يُماريه ولم يُخالفه، فصار ظلَّه الذي لا ينفك عنه، فحمل ما لم يستطع حمله غيره؛ حتى بعث الله تعالى سيد الكائنات بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين وسبيل اليقين، فوتد في أرض الإيمان مدافعاً عن شريعة الديَّان.

يتنمر في ذات الله

 صوتٌ تلألأ في سماء الحروب، تطرب له آذان المسلمين، وتتشقق منه قلوب المشركين، فكان يرمي به النبي العظيم في لهواتها إذا ما اشتدَّت حمَّارة القيضِ وأسدلت الطوام ستائر الصخب الحربي وحمي الوطيس، فلم يكن لها غير ابن أبي طالب يطأ صماخها، ويُناوش ذؤبانها، ويفري ضياغمها، حتى يُفرِّق كتائبها، ويُظهر فيها عجائبه ولم تجف من غدائرها مشاربه، فناصف المسلمين ببدر، وقام بفرده في أحد، وهزم الأحزابَ وحده، وفتح خيبر بعزمه، وفتح مكة بيمينه معلياً فيها صوته (اليوم يوم المرحمةِ اليوم تُصانُ الحُرمة)، وبعدها قاتل القاسطين والمارقين والناكثين وقد ناهز فيها الستين من عمره.

الأوسمة العليا

 نال من الأوسمة ما افتقر الآخرون لمفردها، فقد قال فيه الذي (دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)النجم8/9: (أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي؟) وقد رضي، وقال فيه: (علي منِّي وأنا من علي)، وقال فيه: (يَا عَلِيُّ لَوْ لَا أَنْ تَقُولَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي فِيْكَ مَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ لَقُلْتُ‏ فِيكَ‏ مَقَالًا لَا تَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ رِجَلْيَك وَفَضْلِ طَهُورِكَ يَسْتَشْفُونَ بِهِمَا وَلَكِنْ حَسْبُكَ أَنْ تَكُونَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك)، وقال فيه (ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين) فقال الصادق (عليه السلام): (وأنا من الثقلين)، وقال فيه لمَّا برز لعمرو بن عبد ود العامري: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله)، وقال فيه: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، وقال فيه: (يا علي يقتلكَ أشقى الآخرين)، وهذه الكلمات لا تفي بالغرض ولا تصل لِكُنِه معرفته ولا تحصي الأوسمة التي نالها وقد قال فيه النبي العظيم: (ياعلي لا يعرف الله إلَّا أنا وأنت ولا يعرفني إلَّا الله وأنت ولا يعرفكَ إلَّا اللهُ وأنا) رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف.

صوت العدالة الإنسانية

 تجسدت العدالة الإنسانية في علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى صار هو العدل، فمتى ما حلَّ تبدد الظلم ووُضع الحق في نصابه وانتصف الناس من حقوقهم، فلا ينظر لألوانهم ولا لدينهم ولا لعقيدتهم وهو القائل: (الناس صنفان: إمَّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق)، فشهد له أعداؤه وأحباؤه، فكل الناس عنده لأمٍّ وأب، لا فرق بين أعجمي وعربي إلَّا بالتقوى لا بالعطاء، فبقيت دولته حلم العظماء على مر التاريخ، فضرب بها -على صغر المدَّة وطول المحنة- أروع أمثلة الدولة الفاضلة بالسواعد المناضلة، ولو ثُنيت له الوسادة؛ لأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم بلا كدِّ ولا تعب، ولكن لله في خلقه شؤون.

مُلهم الأدباء

 الشخصية الوحيدة التي يقف عندها الأدباء في حيرة وتأخذهم أهوال الخيالات في دهاليز المعرفة فيشعرون أنَّهم يصولون على أوراقهم بيد جذَّاء ولا يقطفون من بساتينه إلا أوراقاً قد سقطت على صفحات التاريخ الذي لم ينصفه، فهو قيمة إنسانية عظيمة، فمنهم مَن قال فيه:

إنِّي اتيتكَ أجتليك وأبتغي --- ورداً فعندك للعطاش معينُ

ومنهم مَن قال:

أنتَ العلي الذي فوق العلا رُفعا --- ببطنِ مكَّة وسط البيت إذ وضعا

ومنهم مَن قال:

قاسوكَ أبا حسنٍ بسواك --- وهل بالطود يُقاس الذر

أنَّا ساووكَ بمن ناووك وهل ساووا نعلَي قنبر؟!

ومنهم مَن قال:

إنَّا عبيدٌ لفتى --- أنزلَ فيه هل أتى

إلى متى أكتمه --- إلى متى إلى متى

ومنهم مَن قال:

وتركتُ مدحي للوصي تعمدا --- إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا

وإذا استطال الشيء قامَ بنفسه --- وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

 ومنهم مَن وقف على منصَّة المدح وأخذته الرعشة فقال: (هو علي بن أبي طالبٍ وكفى)، ومنهم مَن تلعثم باسمه ومنهم مَن لم يقل فيه سوى كلمة، فقد ألهم الشعراء الخيال وحرمهم معرفته وحاروا في كنهه.

نهاية المطاف لسر الألطاف

 من بيته تعالى كان انبثاق النور العلوي ومن بيته صار انقباضه في ليلة أعدَّها الله للناس خيراً من ألف شهر، ليكشف للناس أنَّ حياة الإمام أمير المؤمنين كلها لله وفي الله ومن الله وإلى الله، فرحل عن الدنيا وهي بحاجته ليقيم العدل ويدحض الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المرجفون، ولكن هذه الدنيا لم تدم للزاهدين بها وقد طلقها ثلاثاً وقال: (لا رجعة لي فيكِ) فالسلام عليه يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حيَّا.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق