في زخم الحياة وصخبها، تبرز حكمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كَنُورٍ يهدي إلى الجوهر، ويُعلِّمنا أن البلاغة ليست في طول الكلام، بل في عمقه. قال ذات يوم: «جَوْدَةُ الْكَلَامِ فِي الاختصار»، فجعل من الإيجاز فلسفةً للحياة والموت، وحتى في رحيله، ترك لنا دروساً لا تُحصى في قوّة الكلمة وقدرتها على البقاء...
في زخم الحياة وصخبها، تبرز حكمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كَنُورٍ يهدي إلى الجوهر، ويُعلِّمنا أن البلاغة ليست في طول الكلام، بل في عمقه. قال ذات يوم: «جَوْدَةُ الْكَلَامِ فِي الاختصار»، فجعل من الإيجاز فلسفةً للحياة والموت، وحتى في رحيله، ترك لنا دروساً لا تُحصى في قوّة الكلمة وقدرتها على البقاء. فكيف حوّل الإمام الاختصار إلى فنٍّ يُحيي العقول، ويبني الأمم؟
الإيجاز: لغة الحكماء
لم يكن الإمام علي شخصيةً عابرة في التاريخ، بل كان مدرسةً فكريةً أتقنت فنَّ اختزال الحكمة في كلماتٍ قليلة. ففي *نهج البلاغة*، نجد خطبه ورسائله مزيجاً من البلاغة والاختصار، كقوله: *«القَلْبُ أَعْمَى إِذَا اشْتَهَى»*، حيث يُلخّص خطر الشهوات في جملةٍ واحدة. لقد آمن أن الكلمة القصيرة، إذا صيغت بدقة، تكون كالسهم يُصيب القلب قبل الأذن، ويُغيِّر المسارات دون حاجة إلى إطالة.
من وصاياه: الاختصار أسلوب حياة
لم تكن حكمة الإمام مجرد نظريات، بل طبّقها في كل تفاصيله. في رسالته الشهيرة إلى مالك الأشتر، وهي دستورٌ للحكم الرشيد، كتب: *«أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ»*، فجمع بين أمرين: العدل والعاطفة، في عبارةٍ موجزة. حتى في تعامله مع الخصوم، كان يُجيبهم بكلماتٍ تحمل في طياتها حقائقَ كاملة، كقوله: *«مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَلَا تَأْمَنْ شَرَّهُ»*، مُذكّراً بأن الإيجاز يُعري الحقائق دون مواربة.
الموت: رحلةٌ تختصر الدنيا
عندما أُصيب الإمام في محراب مسجد الكوفة، لم يُفصِح عن ألم الجسد، بل رفع رأسه نحو السماء وقال: *«فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»*، فكانت كلماته الأخيرة خير تعبير عن رضاه بقضاء الله، وحكمته في اختزال المشاعر في عباراتٍ تلامس السماوات. لم يترك وصيةً طويلة، بل أوصى أبناءه بالتقوى والعدل، مؤكّداً أن الزهد في الدنيا هو أساس النجاة.
حاضرنا: هل نعي درس الاختصار؟
في عصرٍ تُغرقه الكلمات، وتُغري فيه المنصاتُ بالإسهاب، تُصبح حكمة الإمام علي أكثر إلحاحاً. فالكلمة المختصرة اليوم هي سلاحٌ ضدّ التشتت، وسبيلٌ لتركيز الأفكار. يقول الإمام: *«خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ»*، فهل نستطيع أن نتعلم من فلسفته في التواصل؟ هل نُقلّص الخطابات الطويلة لنصل إلى الحقائق؟
كلماتٌ تُبعَث من جديد
رحل الإمام جسداً، لكن كلماته ما زالت تُنبت في قلوب المؤمنين حكمةً ووعياً. إن دعوته للاختصار ليست دعوةً للصمت، بل للكلام المُعبّر الذي يهزُّ الضمائر.
بهذا يظلُّ الإمام علي (عليه السلام) حياً في كل كلمةٍ موجزةٍ تحمل حقاً، أو تدعو إلى خير. فهل نُحسن الاستماع؟
اضف تعليق