الإيمان بالمهدوية هو حركة روحية وعملية في ذات الوقت. هو دعوة للعمل على تغيير الذات والمجتمع، وتحقيق العدالة والمساواة. لذلك، ينخرط المسلمون المؤمنون بالمهدوية في مسعى دائم لتحقيق قيم العدل والحق في حياتهم اليومية، فهم في انتظار إمامهم المنتظر كما هم في مهمة بناء مجتمع فاضل قائم على الأخلاق الإسلامية العليا...
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"
إن الإيمان بالغيب هو من أسس الإيمان في الإسلام، ويعد أحد الصفات المميزة للمؤمنين المتقين الذين يضعون في قلوبهم يقينًا راسخًا بأن الله سبحانه وتعالى يحكم الكون ويعلم ما خفي عن البشر. ومن بين أبعاد الإيمان بالغيب التي يوليها المسلمون اهتمامًا خاصًا، الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام) الذي يمثل عنصرًا حيويًا في العقيدة الإسلامية، إذ يعد بمثابة البشارة بمستقبل مشرق للبشرية كلها.
الآية الكريمة في سورة البقرة: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..." تسجل لنا الحقيقة العميقة أن الإيمان بالغيب هو حجر الزاوية الذي يبني عليه المسلم علاقته مع الله تعالى ومع الكون والوجود. وهو *إيمان باللامرئي، إيمان بما لا تدركه الحواس ويعجز العقل البشري عن تصور تفاصيله. لكن الإيمان بالغيب لا يتناقض مع العقل بل يتناغم معه في أفق أوسع، إذ يجسد الرؤية الإسلامية الشاملة التي تدعو المسلم إلى العيش في توازن بين الحياة المادية والروحانية.
في قلب الإيمان بالغيب، يكمن الإيمان بالمهدوية، الذي يتجاوز مجرد الاعتقاد في شخصية الإمام المهدي (عليه السلام) كإنسان منتظر في غيبته، ليشمل إيمانًا عميقًا في المستقبل الباهر الذي يرمز إليه الإمام المهدي.
الإمام المهدي (عليه السلام) يمثل أملًا دائمًا بالبشرية في عصر من الظلمات. فهو المنقذ المنتظر الذي سيظهر (=سيعود) ليقيم العدل ويسود الحق في الأرض بعد أن ملأها ظلمًا وجورًا. لكن، هذا الإيمان بالمهدوية لا يتعلق فقط بمجيء شخص بعينه، بل يتعلق بالمستقبل الذي يمثله هذا الشخص: المستقبل الذي تشرق فيه شمس العدل، وينتشر فيه السلام، وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية، وتعيش فيه الإنسانية مرحلة جديدة من التطور والرفاه.
الاعتقاد في الإمام المهدي (عليه السلام) ليس مجرد انتظار عاطفي، بل هو دعوة للتحول الإيجابي في الواقع، وهو إيمان بتغيير جذري قادم: إيمان بمرحلة جديدة من تاريخ الإنسانية. في هذه المرحلة، ستتساقط كل مظاهر الظلم والفساد، ويحل محلها العدالة الحقيقية. لذلك، المهدوية ليست مجرد فكرة دينية منفصلة عن الواقع، بل هي دعوة للاجتهاد والعمل من أجل تحقيق القيم النبيلة في حياة المسلم اليومية.
يُعد الإيمان بالمهدوية رمزًا للأمل المستمر في قلب المؤمن، إذ يحث هذا الإيمان على التضحية من أجل مجتمع أفضل وأكثر عدلًا. ومن هذا المنطلق، فان الإيمان بالمهدي ليس فقط إيمانا بشخص سيعود ليغير مجرى التاريخ، بل هو في الوقت نفسه إيمان بالمستقبل الذي سيتحقق من خلال هذا التغيير.
من وجهة نظر فلسفية، تمثل المهدوية تحقيق التوازن بين الغيبيات والواقع. فالغيبيات هي ما لا يمكن التحقق منه بالوسائل المادية والعلمية التقليدية، لكنها مع ذلك تشكل جزءًا أساسيًا من فكر الإنسان المسلم. الإيمان بالمستقبل الذي سوف يتحقق على يد الإمام المهدي يعكس أعمق تطلعات الإنسان: رغبته في العيش في عالم تسوده العدالة والمساواة.
هذا النوع من الإيمان لا يتناقض مع حرية الإرادة، بل يُكملها. فهو يمنح الأفراد الأمل والإلهام ليعيشوا حياتهم مع وعي بأنهم جزء من مخطط إلهي أكبر، وأن الظروف العالمية المعاصرة، مهما كانت قاسية أو صعبة، هي مجرد مرحلة مؤقتة في ظل الجهود المستمرة نحو تحقيق العدالة والحق.
الإيمان بالمهدوية هو حركة روحية وعملية في ذات الوقت. هو دعوة للعمل على تغيير الذات والمجتمع، وتحقيق العدالة والمساواة. لذلك، ينخرط المسلمون المؤمنون بالمهدوية في مسعى دائم لتحقيق قيم العدل والحق في حياتهم اليومية، فهم في انتظار إمامهم المنتظر كما هم في مهمة بناء مجتمع فاضل قائم على الأخلاق الإسلامية العليا.
إن الفهم الصحيح لمفهوم المهدوية ينقلنا إلى رؤية متجددة لمستقبل مشرق، ليس مجرد انتظار لمجيء شخص، بل هو عمل حثيث لبناء مجتمع يعكس قيم الإمام المهدي: العدالة، الحق، والمساواة.
الإيمان بالمهدوية هو إيمان بعملية تطور تاريخية شاملة، إيمان بتجسد الأمل في اللحظة الحاسمة من التاريخ. أكثر من كونه إيمانًا بشخص معين، انه إيمان بمستقبل البشرية الذي يبشر به هذا الشخص. إن المهدوية تعني الأمل المتجدد في الظرف التاريخي، وتبعث في نفوس المؤمنين الأمل في الخلاص والتغيير، ليس فقط على مستوى الأفراد ولكن على مستوى البشرية ككل.
الانتظار الايجابي في المهدوية لا يعني الخمول، بل يعني الاستعداد الروحي والفكري لتحقيق قيم العدل والسلام التي سيجسدها الإمام المهدي (عليه السلام) عندما يعود، فتكون هذه العودة تجسيدًا عمليًا للأمل في غد أفضل للبشرية جمعاء
اضف تعليق