الرسالة الأخيرة من مرقد السيد زينب في سوريا حالياً؛ فهي، عليها السلام، تعلمنا قول الحق بكل شجاعة وثقة لنشر الوعي بين المسلمين في كل مكان، وأن المرقد الشريف أكبر بكثير من الأطر العاطفية، فهي مصدر إلهام لدروس الشجاعة والصبر والثبات على المبدأ دون خوف مهما كانت الأسباب..

"اللهم تقبّل منّا هذا القربان من آل محمد"

وسط الأشلاء والدماء والسهام والرماح فوق رمال المعركة، رفعت السيد زينب خطاها الثقيلة نحو ساحة المعركة، حتى جلست عند جثمان أخيها الامام الحسين، وقد احتزوا رأسه الشريف، و رضوا صدره بحوافر الخيل، وصار في وضع يصعب على أقوى الرجال قلباً الاقتراب منه، فضلاً عن لمسه كما فعلت السيدة زينب بقلبها الحديدي، ثم وضعت يداها تحت كتفه بنيّة رفعه الى الأعلى مخاطبة السماء بـ "اللهم تقبّل منّا هذا القربان من آل محمد".

لنتصور امرأة يقتل أخاها أمام عينها، وبتلك الطريقة المُفجعة، ثم تدنو من جثمانه وتلقي بهذه الكلمات الصاعقة التي تعادل في قوتها هجوم معاكس لجيش ضخم يكتسح صفوف الأعداء ويذيقهم مرارة الهزيمة على حين غفلة، وهي امرأة وليست رجلاً، تنتظر إجراءات الأسر والسبي وفق القوانين الجاهلية آنذاك.

نعيش هذه الأيام ذكرى وفاة عقيلة بني هاشم؛ زينب ابنة امير المؤمنين، عليهما السلام، ونستذكر صبرها وشجاعتها في ساحة المواجهة بين الحق والباطل، و أرى ثمة تلازماً بين الصفتين، تدعونا للتأمّل رجاء العبرة، وأن نحكم الربط بينهما، فالصبر يحملنا الى مشاهد القتل، والعطش، والأسر، والاضطهاد، وكل ما يتصل بالعاطفة، بينما الشجاعة تحملنا الى الوعي والفهم والإدراك، وكل ما يتصل بالعقل، فقد كانت السيدة في غاية الذكاء بخطوتها هذه عندما انتزعت نشوة الانتصار العسكري من الأعداء، فقد كان قادة الجند، ومعهم عمر بن سعد، وخلق كثير من الناس يتطلعون الى ما تريد السيد زينب صنعه مع جثمان اخيها المشبع بالسهام والطعنات وضربات السيوف، فظنوا أنها ستقيم النائحة والبكاء كما تفعل أية أخت، او أم او زوجة بفقد عزيزها، ولاشك أن الحزن المتفجر كان يغلي في صدرها دون ان تظهره حتى لا يشمت الأعداء ملتزمة بوصية أخيها الامام الحسين، بأن قال لها في الساعات الأخيرة من ليلة العاشر من المحرم (ليلة عاشوراء)، "أخية! لا يُذهبن حلمك الشيطان"، فطوّعت العاطفة للعقل، واستبدلت النياحة والبكاء بدرس بليغ للأجيال الى يوم القيامة.

الموقف البطولي للسيدة زينب يوم عاشوراء يحمل عدة رسائل، منها الى الأعداء في ساحة المعركة، ولأفراد الامة آنذاك، كما هي موجهة الينا ايضاً، ويمكننا تسليط الضوء على بعض منها: 

الرسالة الأولى لأهل الكوفة 

تميط فيها اللثام عن الحقيقة المغيبة من قبل النظام الأموي، وتحبط كل محاولات التضليل، و رسم صورة ذهنية تجعل من الامام الحسين مستحقاً للقتل لحفظ وحدة الأمة و"سيادة النظام والقانون"، ومعاقبة من يتمرد على "الحاكم الشرعي"، فعندما يسمع المُغرر بهم أن الامام الحسين إنما قُتل ليكون قرباناً لتحكيم قيم وأحكام السماء، وليس طمعاً بالحكم، كما حاول الأمويون إشاعة هذه الخديعة، وما يزالون حتى اليوم، حتى احتجاجه على وجهاء أهل الكوفة، مثل شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر وآخرين، بأنهم كتبوا اليه أن "أقدم فقد أينعت الثمار وأخضرّ الجناب"، لم تكن مطالبة منه للوفاء بعهدهم واتخاذه حاكماً بدلاً من ابن زياد، بقدر ما كان يعدها خطوة لتحكيم شرع الله وسنة رسوله كما فعل أبوه من قبل والناس لذلك كارهون. 

الرسالة الثانية المشتركة

لأولئك المتجحفلين أمامها وأهل الكوفة وجميع المسلمين في تلك البرهة الزمنية، ولنا ايضاً في هذا الزمن، والى يوم القيامة، بأن رسالة السماء لن تنحصر في شخص انسان بعينه، إنما تواكب الزمن وحياة الانسان للتواصل معه على طريق الإصلاح والتكامل، وهذا هو العهد المُبرم بين الله -تعالى- وأنبيائه ورسله والأولياء المعصومين، بأن يسترخصوا دمائهم في سبيل الله –تعالى- ولا يعيروا أية أهمية لوجودهم في الحياة إلا بأن "يقيموا حقاً او يدحضوا باطلاً"، كما بين أمير المؤمنين، عليه السلام. 

فقد تصور أهل الكوفة إنهم بقتل الامام الحسين أراحوا الأمة من مشكلة سياسية وأمنية، وسينامون قريري العين في هدوء واستقرار في ظل حكم موحد دون معارض، ويمثل الإسلام، ولو ظاهراً، بيد أنهم لم يلبثوا أن اكتشفوا الحقيقة المرّة بعد واقعة كربلاء، فكان البكاء والندم، كما تندّم آبائهم قبل عشرين سنة عندما خذلوا أمير المؤمنين، ونصروا معاوية وجعلوه قائداً للأمة، ثم صُدموا بكلماته الاستفزازية في الكوفة بأن "إنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم"، فكان الدرس البليغ بنتيجة من يفضّل الجُبن والتخاذل على قول الحق بشجاعة. 

الرسالة الثالثة لنا 

إن الامام الحسين، وأهل بيت رسول الله يمثلون الامتداد الحقيقي لرسالة السماء، وليست هي فكرة او رؤية خاصة من بشر محدودي التفكير والإدراك، تجسيداً لحديث رسول الله: "إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لا يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

فالرسالة واضحة من السيدة زينب بأن الامام الحسين وأهل البيت، عليهم السلام، هم من يمثلون الإسلام بكل أحكامه وقيمه وقوانينه، ولا مجال للمجاملة أو تراجع أمام الحق والحقيقة، وهذا ما فعلته السيدة زينب بعملها الشجاع بعد انتهاء واقعة الطف، وهو عمل ربما كان بالإمكان تحاشيه، ولم يكن عملاً موصى به –مثلاً- او انها تخشى القصور –حاشاها-، وكانت ربما تفضل البقاء تحت الخيام مع النساء والأطفال لإدارة شؤونهم لما بعد الواقعة، حيث كان الجميع يواجهون الترويع من فرسان عمر بن سعد، بين من يحرق، ومن ينهب. 

و الرسالة الأخيرة من مرقد السيد زينب في سوريا حالياً بأن لا نتركه خالياً من الزائرين؛ فهي، عليها السلام، تعملنا قول الحق بكل شجاعة وثقة لنشر الوعي بين المسلمين في كل مكان، وأن المرقد الشريف أكبر بكثير من الأطر العاطفية، فهي مصدر إلهام لدروس الشجاعة والصبر والثبات على المبدأ دون خوف مهما كانت الأسباب، وقد أثبتت التجارب أن منطق الحق لا يرفضه أحد لتطابقه مع الفطرة السليمة للإنسان، فاليوم ليس من عاقل يرفض الحرية والمساواة والعدل والكرامة الإنسانية التي نادى بها الامام الحسين، وأهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم أجمعين.  

اضف تعليق