على مرِّ التَّاريخ حاولَ المفكرونَ والأدباءُ والباحثونَ أن يقتربوا من فهم شخصيتِها العظيمة، ولكنهم وجدوا أنفسَهم أمامَ بحر لا ساحلَ له؛ فعجزت ألسنتُهم عن الإحاطةِ بجلالِها، وكلَّت أقلامُهم عن تصويرِ عظمتِها، وقصرت كلماتُهم عن التَّعبيرِ عن حقيقتها؛ إذ كيف يمكن للعقلِ المحدودِ أن يدركَ كلماتِ اللهِ سبحانه...
ليس بمقدورِ أيّ إنسان مهما بلغَ علمُهُ وفضلُهُ أن يحيطَ بوصفٍ شاملٍ لحقيقةِ ما أُوتيت سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) من الفضائلِ والمقاماتِ السَّامية؛ فهي بحر لا يُدرَك غوره، وجلالٌ لا يحدهُ وصف، وكلُّ من يتأملُ في حياتِها الطَّاهرةِ (عليها السلام)، إنَّما يقيسُ بعلمِهِ المحدود، ويغترفُ من فيضِها العظيمِ بقَدرِ ما تسمحُ بهِ كفُّه الصَّغيرةُ.
إنَّها بَضعةُ المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وروحُهُ التي تسكنُ بين جنبيهِ، وتحفةُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) لنبيِّه الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله).
هي تفاحةُ الجنَّة، والكوثرُ الممنوحُ لخيرِ البرية، وسيدةُ نساءِ العالمينَ على مرِّ العصور، وسيدةُ نساء الجنَّة بلا منازع، وكيف لا تكونُ كذلكَ وهي ابنةُ الصفوة، وحجَّةُ اللهِ تعالى على حججِهِ،
والصِّديقة الكبرى التي أضاءَت بمعرفتِها العصورَ والدُّهورَ، وشهدت بفضلِها القرونُ الأولى؟.
إنَّ السَّيدةَ فاطمةَ الزَّهراءَ (عليها السلام) ليست مجرد امرأة عاشت فترة قصيرة واستشهدت في ريعان شبابها، بل هي رمز خالد ومدرسة عميقةُ الدُّروس للأجيالِ المتعاقبة، وحياتُها القصيرةُ من حيث الزَّمن هي في الحقيقةِ مشعل نور يضيءُ دروبَ الإنسانيةِ، ونبراس يجب أن يُقتدى بهِ لتعليمِ الأممِ معاني التَّربيةِ الصَّالحةِ والقيمِ النَّبيلة.
على مرِّ التَّاريخ حاولَ المفكرونَ والأدباءُ والباحثونَ أن يقتربوا من فهم شخصيتِها العظيمة، ولكنهم وجدوا أنفسَهم أمامَ بحر لا ساحلَ له؛ فعجزت ألسنتُهم عن الإحاطةِ بجلالِها، وكلَّت أقلامُهم عن تصويرِ عظمتِها، وقصرت كلماتُهم عن التَّعبيرِ عن حقيقتها؛ إذ كيف يمكن للعقلِ المحدودِ أن يدركَ كلماتِ اللهِ سبحانه التي لا نهايةَ لها؟
ومع ذلكَ فإنَّ إدراكَ كمالها الكامل بعيدُ المنال، لكن لا يعني ذلكَ أن نتركَ واجبَنا في استلهامِ نورِها؛ لذا، ومن بابِ حبِّ أهلِ البيت (صلوات الله عليهم) ووفاءً لهم، ينبغي أن نسعى جاهدينَ لأداء جزءٍ من حقوقها، والوقوف نصرةً لأوَّل مظلومية شهدها الإسلام؛ تلكَ التي جسدت أسمى معاني الصَّبر والإيمانِ في وجهِ الظُّلم؛ لذلك سنقفُ عندَ بعضِ المحطَّات المهمَّةِ في حياتِها (صلوات الله عليها).
المحطَّة الأولى: ميزان الرِّضا الإلهي
لا شكَّ ولا ريبَ أنَّ هدايةَ البشرية إلى الطَّريق المستقيم تمثِّل أحد الأهداف الأساسية لخلقِ الإنسان وإرسال الرُّسل وتنصيب الأوصياء (صلوات الله عليهم) وإنزال الشَّرائع السَّماوية؛ وهذا الهدفُ الجليلُ يشكِّل جوهرَ الرِّسالة الإلهية وغاية وجودِ الإنسانِ على هذه الأرض، وهو الرَّكيزة التي تدور حولها المسائلُ العقائديةُ الكبرى. ومسألةُ الهداية ليست مجرد جانب من جوانب الدِّين، بل هي لبُّه وروحُه؛ إذ كلَّ تعاليم الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام)، وكلُّ ما أوحي إليهم من شرائع إنَّما صُمِّم ليوجه الإنسانَ نحو الكمالِ النَّفسي والمعرفي، وليقوده إلى التَّمسكِ بالقيمِ الإلهيةِ التي تحققُ له السَّعادة في الدُّنيا والآخرة.
من هنا، تحتلُ الهداية موقعًا محوريًا في المنظومةِ العقائدية؛ فهي ليست فقط وسيلة لتحقيقِ النَّجاة الفردية، بل هي السَّبيلُ لتكوينِ مجتمع إنساني يسودُه العدلُ والفضيلةُ، مسترشدًا بأنوار الوحي وحكمة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام). والإيمانُ بما جرى على السَّيدةِ فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) يعد جزءًا لا يتجزأ من العقيدةِ والولاءِ لأهلِ البيتِ (صلوات الله عليهم)، فهو ليس مجرد حدث تاريخي عابر للأسباب التَّالية:
1. يلعبُ العقلُ دورًا جوهريًا في تحليلِ الأحداثِ التَّاريخية، واستخلاص الدُّروس والعِبرِ منها، مما يساعدُ على تحديدِ المسارِ الصَّحيح حيالها، ومع أنَّ التَّاريخ قد نقلَ لنا سلسلة من الوقائع، فإنَّ الإنصافَ يوجبُ علينا اليوم تأملها بدقَّة لاستنتاج الدُّروس التي تقودُنا لاختيارِ السُّلوك القويم، خصوصًا وأنَّ الأمةَ الإسلامية شهدت بعد استشهاد الرَّسول الأكرم محمَّد (صلى الله عليه وآله) انقسامًا كبيرًا لا تزال آثاره قائمة حتَّى يومِنا هذا.
إنَّ قضيةَ السَّيدة الزَّهراء (عليها السلام) وما عانته من مصائب وآلام لم تكنْ منفصلةَ عن جوهرِ الرِّسالة الإسلامية، وموقفها لا يمكن تجاوزه بسهولة من قِبل أيّ عاقل يحرصُ على دراسةِ الإسلام بعمق، بل يتطلب الوقوف عنده وتحليله بجديَّة، وطرح التَّساؤل حول ما إذا كان لموقف الزَّهراء (عليها السلام) دور في توجيه المسارات المختلفة وتحديد هويَّاتها.
في تحليلنا للمواقف، علينا أولاً معرفة صاحبها بدقَّة؛ لأنَّ هذه المعرفة تسهم في فهم طبيعة الموقف وتحليله، وهذا منطق عقلي واضح، فمثلًا إذا وقف الرَّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ضدَّ أحد، فإننا ندينُ الطَّرفَ الآخرَ تلقائيًا؛ لإيماننا بأنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الميزانُ الذي يميِّز الحقَّ عن الباطل.
2. وردت نصوص شريفة كثيرة في القرآنِ الكريمِ والحديثِ الشَّريفِ عن السَّيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لا يسع المقامُ لذكرِها جميعًا، لكن أكتفي بذكر حديث واحد مروي عن الرَّسول الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله) ومتفق عليه بينَ الفريقينِ، حيث قال: "إنَّ اللهَ يغضبُ لغضبِكِ، ويرضى لرضاكِ"(1)، وهذا الحديثُ يُعدُّ من أبرز الأدلةِ على إثبات عصمتها (عليها السلام)؛ إذ إنَّ رضاها وغضبَها هما انعكاس لرضا الله تعالى وغضبه، مما يعني أنَّ مواقفها نابعة من إرادة الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلَّا لشخص معصوم، منزَّه عن العيوب وممتنع عن ارتكاب القبائح، ليكونَ رضاه وغضبُه في انسجام تام مع الرِّضا والغضب الإلهيينِ.
كما دلَّت النُّصوص الكثيرةُ والمستفيضةُ على أنَّ السيدة الزَّهراء (عليها السلام) انتقلتْ إلى جوارِ ربِّها وهي غاضبة على من أسس الظُّلمَ والجور؛ ومن هنا فإنَّ رضاها وغضبها يمثلان معيارًا عمليًا واضحًا، ودليلًا ميدانيًا على بيانِ الصِّراطِ المستقيمِ الذي أمرنا اللهُ سبحانه باتباعه في قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2).
3. الإلمامُ بالأحداث التَّاريخية التي أحاطت بسيدة نساءِ العالمين (صلوات الله عليها) يجعل الرُّؤية تجاه أولياء الله وأعدائه جلية وواضحة، وهذه المعرفة تدفعُ الإنسانَ نحو التَّولي لأولياء الله (سبحانه) والتَّبري من أعدائه، وهو ركن أساسي من أصول الاعتقاد وكذلك حكم شرعي واجب من أحكام الفقه، وقد جاءت أقوالُ العلماء (رضوان الله تعالى عليهم) مؤكدة أنَّ الإيمانَ باللهِ سبحانه وبرسولهِ والأئمة (عليهم السلام) لا يكتمل إلَّا بالبراءةِ من أعدائِهم؛ يقول الشَّيخُ الصَّدوقُ (رحمة الله عليه): "ولا يتم الإقرارُ باللهِ وبرسولهِ وبالأئمةِ إلَّا بالبراءةِ من أعدائهم"(3).
لكن كيفَ يمكننا قياسَ الولاءِ وتحديدَ المعاداة؟
الجواب: يكمنُ في وجودِ ميزان إلهي واضح يبيِّن ذلكَ، وهذا الميزانُ هو رضا السيدة الزَّهراء (عليها السلام) وغضبها؛ فقد اقتضى التَّخطيطُ الإلهي أن تكونَ الزَّهراء (عليها السلام) أعظم رمز للتولي والتبري، حيث يمثِّل رضاها وغضبها معيارًا لا لبسَ فيه لمعرفة أهلِ الحقِّ من أهل الباطل، ومقياسًا دقيقًا للتمييزِ بين الولاءِ لأولياء الله والتَّبري من أعدائه.
المحطَّة الثَّانية: دروس وعبر
عندَ دراسةِ حياةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) يجب أن نلتفتَ إلى أهميةِ التَّأمل الدَّقيق في سيرتِهم وحياتِهم، لا أن نقتصرَ على دراسة سطحية أو عابرة؛ فحياةُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) كلُّها نورٌ على نور، وكلُّ لحظة فيها تحمل دروسًا عظيمة، والتَّأملُ فيها يعني السَّعي لاستخلاص الفوائد والعِبر، في حينِ أنَّ الدِّراسة العابرة لا تعكس الرُّوحَ الحيَّة لهذهِ الحياةِ المباركة؛ ولذلكَ فإنَّ دراستنا لحياة أهل البيت (عليهم السلام) لا بدَّ أن تكونَ شاملة لكافِّة جوانب حياتِهم: الجهادية، والتَّربوية، والرُّوحية، وغيرها من الأبعاد؛ ومن الخطأ أن نقتصرَ على جانب واحد فقط، بل لابدَّ من دراسةِ حياتهم بكلِّ أبعادِها، من الألف إلى الياء، للاستفادةِ الشَّاملةِ والكاملةِ من سيرتهم العطرة؛ لأنَّ الهدف الأوَّل والأهم من هذه الدراسة هو تكريس القيم العليا والفضيلة، وإشاعة الأجواء الإيمانية في المجتمع؛ ولأجل تحقيق هذه الغاية من الضَّروري أن يكونَ لكلِّ فرد منَّا قدوة وأسوة في حياته، وهذه القدوة هي التي تشكل شخصيته وطموحاته، وإذا كانت القدوة صالحة وتتمتع بالقيم الدينية، فإن هذا الفرد سيجد السعادة والنجاح في حياته، وقد تكون القدوة شخصًا من الجنسين، سواء كان رجلًا أو امرأة، لكن الأهم هو كيفية اختيار هذه القدوة، وكيفيةُ الاستفادة منها في حياتِنا اليومية.
في رحاب السَّيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) نجد أنفسَنا أمام شخصية شمولية استثنائية تضمُّ جميعَ أبعاد الحياة الكريمة؛ فهي مثال حي لكلِّ القيم الإنسانية؛ فقد كانت السيدة فاطمة (عليها السلام) حاملة لمشعل الدِّفاع عن الرسالة الإسلامية، تذود عنها وتواجه التَّحديات بكلِّ عزم وإصرار.
لقد كانت السَّيدة الزَّهراء (عليها السلام) الزَّوجةَ الصَّالحة والمربيةَ المثالية لأبنائها، حيث تمثل نموذجًا حيًا للتربية الإسلامية الصافية التي قامت على القيم والمبادئ الكريمة، كما كانت حجابًا واعيًا يعكسُ روحَ الطَّهارة والعفاف، وتُعد من أبرز النِّساء المجاهدات اللواتي حملن همومَ أمتهم، وطالبن بالحقوق الشرعية بكلِّ قوة وشجاعة.
فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي امرأة من نوع فريد، لا مثيلَ لها في تاريخ الإنسانية، بقيت وستظل النموذج الأسمى الذي يتبعُ في كلِّ عصر وزمان، لما حظيت به من أخلاق ومُثُل عالية لم تتوفر في غيرها؛ وقد أكَّد رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) هذه المكانة العالية حين قال: "خَيْرُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (4)؛ فهي بحقٍّ نموذج يجسِّدُ الكمالَ في كلِّ جوانب الحياةِ الإنسانية.
ومن هنا سنركِّز على بعضِ الدُّروس من حياتِها (عليها السلام):
الدَّرس الأوَّل: من أسمى واجبات الأم والأب هو غرسُ حبِّ الدِّين في نفوسِ أبنائِهم، وتعليمِهم الدِّفاع عنه والالتزام بقيمه؛ والوالدانِ هما اللذان يراقبان أجواء "مملكتهم الصغيرة" بحكمة، وتواضع؛ كي يلاحظا طبيعةَ المناخِ السَّائد في المنزل؛ هل هو مناخ يعمّه صوتُ القرآن والدُّعاء، أم هو صوت اللهو والطرب والموسيقى؟
هل الأبناءُ ملتزمونَ بالصَّلاة ويحرصونَ على أدائِها في وقتها، أم أنَّ الشَّاشات قد تلهيهم وتشتت انتباهَهم عن واجباتِهم الدِّينية؟
ويمكنُ للوالدينِ من خلالِ تصرفاتِهما وأفعالهِما أن يحوِّلا المنزلَ إلى مدرسة تربوية تعلي المبادئ الإيمانية، تمامًا كما كان يفعلُ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (عليه السلام) والسَّيدةُ فاطمةُ الزَّهراء (عليها السلام)؛ فقد ورد في إحدى الروايات أنَّ الإمامَ الحسنَ (عليه السلام) قال: "رأيتُ أُمِّي فاطِمَةَ قامَتْ فِي مِحْرابِها لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَلَمْ تَزَلْ راكِعَةً ساجِدَةً حتّى انفَجَرَ عَمودُ الصُّبْحِ، وسَمِعْتُها تَدْعُو لِلمُؤْمِنينَ وتُسِمِّيهِم وتُكْثِرُ الدُّعاءَ لَهُمْ وَلا تَدْعو بِشَيءٍ لِنَفْسِها، فقُلتُ: يا أمّاهُ لِمَ لَاتَدْعِينَ لِنَفْسِك كَما تَدْعِينَ لِغَيْرِكِ، فقالت: يا بنى الْجارُ ثُمَّ الدَّار"(5).
إنَّها صورة عظيمة من العبادةِ والتَّضحيةِ في سبيلِ اللهِ تعالى، وكيف لا يكون أبناء مثل هذه الأم العظيمة روادًا في الفكر والتَّضحية؟
وكيف لا يكونون عظماء في تاريخ الإنسانية؟
إنَّ التَّأسيس لهذهِ القيم منذ الصِّغر يجعلُ الأبناءَ يحملونَ في نفوسِهم شغفًا بإيمانهم، ويعكسون ذلك في حياتِهم وأعمالِهم في المستقبل.
الدَّرس الثَّاني: في عصرِنا الحالي الذي يتسم بالتَّقدم التّكنولوجي والعولمة في كافَّة مجالاتِ الحياةِ، من ثقافة واقتصاد وسياسة، نرى المرأةَ في كثير من الأحيان تصبحُ ضحية لهذا التَّقدم؛ حيث يُفرض عليها الاستضعاف، وتقبل به رغمًا عنها، وبحثًا عن مكان لها في هذا العالم، لكن على حساب هويتِها وعفَّتِها؛ ولذلكَ تتعرضُ المرأة للكثير من الضُّغوط التي تدفعها إلى محاولةِ الوصولِ إلى مكانة اجتماعية، ولكن في إطار يعاكس أنوثتَها الحقيقية وقيمَها الدِّينية، فتتنازل في بعض الأحيان عن قيمتِها وحجابِها. وفي هذا السِّياق يظهرُ النموذج المشرقُ الذي قدَّمته السَّيدةُ فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مفهوم الحجاب الواعي، وأنَّ الحجابَ ليس مجرد قطعة قماش تُغطي جزءًا من الرَّأس؛ بل هو أكثر من ذلك بكثير، هو حجاب يتضمن الوعيَ الكاملَ بهويةِ المرأة ودورِها في المجتمع، مع الحفاظِ على كرامتِها وعفَّتِها؛ فعن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام):" إِنَّ فاطمةَ بنتَ رسولِ اللَّهِ استأذَنَ علَيها أعمى فحجَبَتْه، فقالَ لها النبيُّ صلى الله عليه وآله:" لِمَ حَجَبتِه وهو لا يَراكِ؟
فقالت:" يا رسولَ اللَّهِ، إن لم يَكُن يَراني فأنا أراه، وهو يَشَمُّ الريحَ"(6)؛ وهكذا تقدِّم لنا الزَّهراء (عليها السلام) نموذجًا رائعًا للمرأة التي تتمسكُ بحجابِها الواعي، الذي لا يقتصر على مظهر خارجي فقط، بل هو تعبير عن قوَّةِ إيمانِها وحفاظِها على هويَّتها، وموقفِها الثَّابت في مواجهة تيارات العصر المتغيرة.
الدَّرس الثَّالث: أهلُ البيتِ (عليهم السلام) هم أئمةُ الجودِ والكرمِ، وهم مصدرُ للعطاءِ في جميعِ أشكالِه المادِّي والمعنوي، ولقد ارتبطت هذه الصِّفة بهم ارتباطًا وثيقًا، حتَّى أصبح كلُّ فرد من أهلِ البيت (عليهم السلام) نموذجًا في الكرمِ والعطاءِ، فلا تكاد تجد حادثة من حياتِهم إلَّا وتُظهر سخاءَهم وتفانيهم في تقديمِ الخير؛ وفي هذا السِّياق يروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله عليه) قال:
"صلَّى بنا رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) صلاةَ العصرِ، فلمَّا انفتلَ جلسَ في قبلتِه والنَّاسُ حوله، فبينا هم كذلك إذ أقبلَ إليه شيخٌ من مهاجرةِ العربِ(7) عليه سملٌ(8) قد تهللَ(9) وأخلقَ، وهو لا يكادُ يتمالكُ كبرًا وضعفًا، فأقبلَ عليه رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يستحثُّه الخبرَ.
فقال الشيخُ: يا نبيَّ اللهِ أنا جائعٌ فأطعمني، وعاري الجسدِ فاكسني، وفقيرٌ فأرشني. فقال (صلى الله عليه وآله): ما أجدُ لك شيئًا، ولكن الدَّالّ على الخيرِ كفاعِلِه، انطلقْ إلى منزل من يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبهُ اللهُ ورسولُه، يؤثرُ اللهَ على نفسهِ، انطلقْ إلى حجرةِ فاطمةَ، وكان بيتُها ملاصقًا بيتَ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الذي ينفردُ به لنفسِه من أزواجهِ، وقال: يا بلالُ قمْ فقفْ به على منزلِ فاطمةَ.
فانطلق الأعرابيُّ مع بلال، فلما وقفَ على بابِ فاطمة نادى بأعلى صوته: السَّلامُ عليكم يا أهلَ بيتِ النُّبوةِ ومختلفِ الملائكةِ، ومهبطِ جبرئيلِ الروحِ الأمينِ بالتنزيلِ، من عندِ ربِّ العالمينَ.
فقالت فاطمةُ: وعليك السَّلامُ، فمن أنت يا هذا؟
قال: شيخٌ من العربِ أقبلتُ على أبيك سيدِ البشرِ مهاجرًا من شقةٍ وأنا يا بنتَ محمدٍ عاري الجسدِ، جائع الكبدِ فواسيني يرحمكِ اللهُ.
وكان لفاطمة وعليٍّ في تلك الحالِ ورسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ثلاثًا ما طعموا فيها طعامًا، وقد علمَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ذلك من شأنِهما.
فعمدت فاطمةُ إلى جلدِ كبشٍ مدبوغٍ بالقرظ(10) كان ينامُ عليه الحسنُ والحسينُ فقالت: خذ هذا أيها الطارقُ! فعسى اللهُ أن يرتاحَ لك ما هو خيرٌ منه، قال الأعرابيُّ: يا بنتَ محمدٍ شكوتُ إليك الجوعَ فناولتيني جلدَ كبشٍ ما أنا صانعٌ به مع ما أجدُ من السغبِ.
قالت: فعمدت لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقِها أهدته لها فاطمةُ بنتُ عمِّها حمزةَ بن عبدِ المطلبِ، فقطعته من عنقِها ونبذته إلى الأعرابيِّ فقالت: خذه وبعه فعسى اللهُ أن يعوضك به ما هو خيرٌ منه.
فأخذ الأعرابيُّ العقدَ وانطلق إلى مسجدِ رسولِ اللهِ والنبيُّ (صلى الله عليه وآله) جالسٌ في أصحابهِ، فقال: يا رسولَ اللهِ أعطتني فاطمةُ [بنتُ محمدٍ] هذا العقدَ فقالت: بعه فعسى اللهُ أن يصنعَ لك.
قال: فبكى النبيُّ (صلى الله عليه وآله) وقال: وكيف لا يصنعُ اللهُ لك وقد أعطتْكِه فاطمةُ بنتُ محمدٍ سيدةُ بناتِ آدمَ.
فقام عمارُ بنُ ياسرٍ رحمةُ اللهِ عليه فقال: يا رسولَ اللهِ أتأذنُ لي بشراءِ هذا العقدِ؟ قال: اشترِه يا عمارُ فلو اشترك فيه الثقلانِ ما عذَّبهم اللهُ بالنارِ، فقال عمارُ: بكم العقدُ يا أعرابيُّ؟ قال: بشبعةٍ من الخبزِ واللحمِ، وبردةٍ يمانيةٍ أسترُ بها عورتي وأصلي فيها لربي، ودينارٍ يبلغني إلى أهلي، وكان عمار قد باعَ سهمَه الذي نفله رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) من خيبرِ ولم يبقَ منه شيئًا فقال: لك عشرون دينارًا ومأتا درهم هجريةٍ وبردةٍ يمانيةٍ وراحلتي تبلغك أهلك وشبعك من خبزِ البرِّ واللحمِ. فقال الأعرابيُّ: ما أسخاك بالمالِ أيها الرجلُ، وانطلق به عمار فوفاه ما ضمن له. وعاد الأعرابيُّ إلى رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فقال له رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): أشبعتَ واكتسيتَ؟ قال الأعرابيُّ: نعم واستغنيتُ بأبي أنت وأمي، قال: فأجزِ فاطمةَ بصنيعها فقال الأعرابيُّ: اللهم إنك إلهُ ما استحدثناك، ولا إلهَ لنا نعبدهُ سواك وأنت رازقنا على كلِّ الجهاتِ اللهم أعطِ فاطمةَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ... فعمد عمارٌ إلى العقدِ، فطيَّبَه بالمسكِ، ولفَّه في بردةٍ يمانيةٍ، وكان له عبدٌ اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهمِ الذي أصابه بخيبرِ، فدفعَ العقدَ إلى المملوكِ وقال له: خذ هذا العقدَ فادفعه إلى رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأنت له، فأخذ المملوكُ العقدَ فأتى به رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وأخبره بقولِ عمارٍ، فقال النبيُّ: انطلق إلى فاطمةَ فادفع إليها العقدَ وأنت لها، فجاء المملوكُ بالعقدِ وأخبرها بقولِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فأخذت فاطمةُ (عليها السلام) العقدَ وأعتقت المملوكَ، فضحك الغلامُ، فقالت: ما يضحكك يا غلام؟
فقال: أضحكني عظمُ بركةِ هذا العقدِ، أشبع جائعًا، وكسى عاريًا وأغنى فقيرًا، وأعتق عبدًا، ورجع إلى ربِّه"(11)؛ وبذلك، قدَّمت فاطمة الزهراء (عليها السلام) درسًا عظيمًا في العطاء والإيثار، على الرَّغم من فقرها وحاجتها.
المحطة الثَّالثة: صفات شيعة الزَّهراء عليها السلام
في حديث نبوي عظيم، يصف رسولُ اللهِ محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يحدث في يوم القيامة، حيث ينقل لنا مشهدًا فريدًا يتعلق بالسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)؛ إذ يقول: "...
فيوحي اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليها: يا فاطمةُ سَليني أُعطِكِ، وتمنَّي علَيّ أُرْضِكِ، فتقول: إلهي، أنت المُنى وفوق المُنى، أسألك أن لا تعذِّب مُحبّيَّ ومُحبّي عترتي بالنَّار، فيُوحى اللَّه إليها: يا فاطمة، وعزَّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آليتُ على نفسي مِن قَبلِ أن أخلقَ السَّماوات والأرض بألفَي عام، أن لا أُعذِّبَ مُحبِّيك ومُحبِّي عترتك بالنَّار"(12).
فهل يوجد كرم أعلى من هذا الكرم؟
إنَّه لفاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن يتشيَّعُ لها، ومن يواليها، ومن يتمسكُ بها، ولكن السؤال المهم في هذا الموضوع ما هي صفات وأخلاق وأعمال محبِّي فاطمة (عليها السلام) حتَّى يحظوا بهذا العطاء؟
والجواب على ذلك: إنَّ الصِّفات هي:
أوَّلًا: سلامة العقيدة.
إنَّ سلامة العقيدة من الشوائب تُعدّ من الركائز الأساسية التي تميز محبي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)؛ فالعقيدة الصَّحيحة هي ما يُبنى عليها الولاء الحقيقي لأهل البيت (عليهم السلام)، وهي شرط أساسي للثبات في دربهم، وفي هذا السِّياق يذكرُ الإمامُ الباقرُ (عليه السلام) حديثًا عظيمًا:" ينادي مناد يوم القيامة: أين المحبونَ لعلي؟ فيقومونَ من كلِّ فج عميق، فيقال لهم: من أنتم؟
قالوا: نحن المحبونَ لعليٍ (عليه السلام) الخالصونَ له حبًا، فيقال: فتشركونَ في حبِّه أحدًا من النَّاس؟
فيقولون: لا، فيقال لهم: ادخلوا الجنَّة أنتم وأزواجكم تحبرون"(13).
فهذا الإخلاص في الحبِّ هو ما يميِّزُ محبي أهل البيت (عليهم السلام) ويدخلُهم إلى الجنَّة حيث يسيرونَ على صراطِ العقيدةِ النَّقية التي لا تشوبُها شبهة.
ثانيًا: التَّطبيق العملي لأوامرهم واجتناب نواهيهم (عليهم السلام).
يتمثَّلُ البعدُ العملي في العمل بما أمرَ به أهلُ البيت (صلوات الله عليهم)، والابتعاد عمَّا نهوا عنه؛ فالمحبَّةُ الحقيقيةُ لأهلِ البيت (عليهم السلام) لا تقتصر على الكلمات والتَّبجيل، بل تتجسد في التَّطبيق العملي لأوامرهم والابتعاد عن نواهيهم.
" قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: اذْهَبِي إِلَى فَاطِمَةَ عليها السلام بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَسَلِيهَا عَنِّي، أَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ، أَوَ لَسْتُ مِنْ شِيعَتِكُمْ.
فَسَأَلَتْهَا، فَقَالَتْ عليها السلام: قُولِي لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ بِمَا أَمَرْنَاكَ، وَتَنْتَهِي عَمَّا زَجَرْنَاكَ عَنْهُ فَأَنْتَ مِنْ شِيعَتِنَا، وَإِلَّا فَلَا.
فَرَجَعْتُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: يَا وَيْلِي - وَمَنْ يَنْفَكُّ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، فَأَنَا إِذَنْ خَالِدٌ فِي النَّارِ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ شِيعَتِهِمْ فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ.
فَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ لِفَاطِمَةَ عليها السلام مَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا.
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: قُولِي لَهُ: لَيْسَ هَكَذَا [فَإِنَّ] شِيعَتَنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ مُحِبِّينَا وَمُوَالِي أَوْلِيَائِنَا، وَمُعَادِي أَعْدَائِنَا، وَالْمُسَلِّمُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ لَنَا - لَيْسُوا مِنْ شِيعَتِنَا إِذَا خَالَفُوا أَوَامِرَنَا وَنَوَاهِيَنَا - فِي سَائِرِ الْمُوبِقَاتِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَا يُطَهَّرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، أَوْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَنْوَاعِ شَدَائِدِهَا، أَوْ فِي الطَّبَقِ الْأَعْلَى مِنْ جَهَنَّمَ بِعَذَابِهَا - إِلَى أَنْ نَسْتَنْقِذَهُمْ - بِحُبِّنَا - مِنْهَا، وَنَنْقُلَهُمْ إِلَى حَضْرَتِنَا"(14).
ومن هذا الحديث نعلمُ أنَّ الشِّيعي الحقيقي هو من يلتزم بتعاليم أهلِ البيت (عليهم السلام) في كافَّة جوانب حياته، ويعمل بأوامرهم ويتجنب نواهيهم، لكن مع ذلك، إذا وقع في الأخطاء، فإنَّ حبَّ أهلِ البيت (عليهم السلام) له طريق للتطهير والرَّحمة التي تُنقذه في النِّهاية من عذابِ النَّار.
ثالثًا: مشاركة أهل البيت (عليهم أفضل التحية والسلام) أفراحهم وأحزانهم،
إنَّ حبَّ الشِّيعة لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) يجب أن يكونَ متجسدًا في جميعِ جوانبِ حياتِهم، من خلال التَّضامن معهم والتَّفاعل مع مناسباتهم العاطفية من أفراح وأحزان؛ فالأمر لا يقتصر على مجرد التعبير بالقول، بل يجب أن ينعكسَ ذلكَ في الأعمالِ والتَّصرفات، مثل إحياء ذكرى مولدهم ووفاتهم، وتقديم الدَّعم في كلِّ ما يخصهم؛ فقد قال أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (صلوات الله عليه): "إنَّ الله تعالى اطلعَ إلى الأرضِ فاختارَ لنا شيعة ينصروننا، ويفرحونَ لفرحِنا، ويحزنونَ لحزنِنا، ويبذلونَ أنفسَهم وأموالَهم فينا، فأولئكَ منَّا وهم معنا في الجِنَانِ" (15).
وختامًا...
لم تكنْ الزَّهراء (عليها السلام) مجرد امرأة ذاتَ موقف تاريخي، بل كانت مدرسة الأخلاقِ، والشَّجاعةِ، والعدالةِ، والتَّمسك بالحقِّ في كلِّ الظُّروف، وإذا أردتَ أن تكونَ من الذينَ ترضى عنهم السيدةُ فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فعليكَ أن تتبعَ أوامرَ أهلِ البيت (صلوات الله عليهم) وتجنب ما نهوا عنه، وأن تكونَ عقيدتَكَ خالصة وسليمة تجاههم، ولا تشرك في محبتهم أحدًا من أعدائهم، بل اجعل قلبك مليئًا بولايتهم وإخلاصك لهم، وافرح لفرحهم واحزن لحزنهم، وكن دائمًا في موضعِ الانتصار لهم في كلِّ وقت وموقف؛ وبهذه الطريقة -إن شاء الله (تبارك وتعالى)-، ستنال شفاعتَهم ورضاهم (عليهم السلام)، وتكون من المقربينَ في جنانِ النَّعيم.
اضف تعليق