نستذكر السيدة زينب هذه الايام المصادفة لعودة الامام السجاد مع عماته واخواته ومن بقي من النساء والاطفال الى المدينة، ومرورهم بمرقد الامام الحسين بعد حوالي اربعين يوماً من تاريخ الاستشهاد حسب بعض المصادر، ونستلهم من هذه السيدة العظيمة دروس الصبر والشجاعة وبعد النظر، ونحن نحث الخطى...

خلال مسيرة السبي تكشف لنا السيدة زينب فلسفة القوة عند المرأة، وأي قوة يجب ان تتحلّى بها المرأة؟ إنها تلك التي تكشف بها عن الانحراف والزيف في المجتمع والدولة لتكون مُصلِحة بكلامها ومواقفها الرسالية، حتى وإن كلفها هذا بعض التضحيات التي لا تكون ذات قيمة أمام دورها الأساس في بناء الفرد والمجتمع "والله لن تمحو ذكرنا" أيّ ذكرٍ تقصده السيدة زينب، عليها السلام، في خطابها اللاهب بوجه يزيد؟ 

هل هو اسم الامام الحسين، او اسم رسول الله وأهل بيته المعصومين، او حتى اسمها هي؟ أم انه الحق والفضيلة الذي يهدد جبهة الباطل والزيف والانحراف، فضحى من اجله الامام الحسين بنفسه وأهل بيته واصحابه، ليتحول الى راية وصوت هادر ينصر المظلومين، و يُبير الظالمين الى يوم القيامة؟ 

هذه الراية حملتها السيد زينب منذ اللحظة الاولى لانطلاق موكب السبايا من أرض المعركة، حيث الانتصار العسكري والسياسي للنظام الأموي، ونشر الاعتقاد بين افراد الأمة بأن هؤلاء النسوة هُنّ من بقايا الفئة المتمردة على "الأمن والاستقرار"، من خلال مشاهد القافلة وهنّ على ظهور الجمال مثل أي تقرير خبري موجّه، لكن خاب فأل الأمويين بانحناء زينب في هذا المسير الذي تحول الى اذاعة مدوية الى أرجاء البلاد الاسلامية تبث رسالة الامام الحسين الإصلاحية. 

الشجاعة أمام المُنكر

السيدة زينب، عليها السلام، كأي امرأة مخلوقة بمواصفات أنثوية لها مشاعرها الخاصة، لاسيما اذا تعرضت الى مواقف استضعاف على يد بغاة وطغاة، فيكون من الصعب التغلّب على الموقف، بيد أن السيدة زينب، وهي في عمر السابعة والخمسين من العمر، تسامت على الجراح وعلى البغاة في وقت واحد، عندما لوحت براية الإصلاح الحسيني في الكوفة وفي الشام لتُذكر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الفريضة الدينية ذات البعد الاجتماعي والحضاري، ورد تأكيد الامام الحسين، عليه السلام، عليها في رسالته الى الامة والعالم قبل وصوله الى أرض المعركة في كربلاء، "إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولامفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

ذكّرت أهل الكوفة المواظبين على الصلاة والصيام وحتى الحج، بأن خذلانهم إمامهم المنصوب من قبل رسول الله، أحبط تلك الصلاة التي لم تنه عن الفحشاء والمنكر ففقدت محتواها بالكامل، و باتت طقوس دينية وحركات ظاهرية لا تأثير لها على واقع الفرد والمجتمع، وأيّ منكر أكبر من قتل سبط رسول الله.

أما عن آلية الخطاب الزينبي المنحدر من قمة البلاغة العلوية، فيحتاج القارئ للتمعّن والتوقف مليّاً في وقت مناسب لفهم مغازي ومقاصد السيدة في خطبتها: "يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة. إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون".

وفي الشام أطاحت بكبرياء يزيد، وأماطت اللثام عن حقيقته البعيدة عن الدين كحاكم للأمة الاسلامية، وبينت للتاريخ والاجيال بأنه فعل أعظم المنكرات بهتك حرمة نساء رسول الله، بما يشير الى حرص السيدة العقيلة على حرمة المرأة وصون كرامتها، فتوجهت اليه بالخطاب بتعريف شخصيته الحقيقة:" أَمِنَ الْعَدْلِ يَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟! قَدْ هَتَكْتَ سُتُورَهُنَّ وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ يَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاقِلِ وَيَبْرُزْنَ لِأَهْلِ الْمَنَاهِلِ وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْغَائِبُ وَالشَّهِيدُ وَالشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ وَالدَّنِيُّ وَالرَّفِيعُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِيٌّ وَلَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِيّ".

خلال مسيرة السبي تكشف لنا السيدة زينب فلسفة القوة عند المرأة، و أي قوة يجب ان تتحلّى بها المرأة؟ إنها تلك التي تكشف بها عن الانحراف والزيف في المجتمع والدولة لتكون مُصلِحة بكلامها ومواقفها الرسالية، حتى وإن كلفها هذا بعض التضحيات بالتعرض للضغوط النفسية وبعض الخسائر المادية التي لا تكون ذات قيمة أمام دورها الأساس في بناء الفرد والمجتمع، فهي تنجح في هذا البناء العظيم عندما تنجح في مواقفها الشجاعة أمام كل ما يمتّ بصلة الى المنكر والباطل في الحياة.

البكاء من تراث الزهراء 

يُقال؛ أن المرأة أول رد فعل للمرأة المضطهدة؛ البكاء، في أي موقف كان، سواءً في البيت، او محيط الدراسة والتعليم، او في محيط العمل، وهي حالة تبدو طبيعية، بيد أن السيدة زينب تمكنت من التغلّب على مشاعرها الجريحة بعد استشهاد أخيها أمام عينيها بتلك الطريقة المفجعة، ولم تبكِ في ساحة المعركة حتى لا تعطي للاعداء علامات الضعف فيشمتون بها، بلى؛ البكاء والنحيب خلف الابواب المغلقة في المآتم الخاصة بالنساء، وهي السنّة التي سنتها هذه السيدة العظيمة وتبعتها على الأثر نسائنا منذ مئات السنين وحتى اليوم، وهي في ذلك تحاكي شخصية أمها الزهراء التي سطرت للتاريخ والاجيال أعظم موقف لامرأة لم تشهده من بنات حواء على مر التاريخ، عندما تبعت زوجها أمير المؤمنين، وهو مكتوف الأيدي الى مسجد رسول الله وتدافع عنه بقوة شخصيتها، لا ببكائها وتوسلها واستدرار عواطف الناس. 

إن السيدة الزهراء حاربت الانحراف السياسي في الأمة ببكائها ونحيبها الذي أزعج الخونة والمتخاذلين، فكان صوت بكائها سلاحاً فتاكاً يهدد مصالحهم، ويوخز ضمائرهم، مما اضطر أمير المؤمنين لبناء "بيت الاحزان" لها خارج المدينة، وهكذا فعلت ابنتها العقيلة زينب، فقد واصلت وخز الضمير بلا كلل لتقول لأهل المدينة، كما قالت لأهل الكوفة: "ابكوا كثيراً واضحكوا قليلا" على واقعكم المُر لعلكم ترشدون وتصلحون ما افسدتموه، وهي الرسالة المدوية لنا اليوم والى الاجيال الى يوم القيامة.

نستذكر السيدة زينب هذه الايام المصادفة لعودة الامام السجاد مع عماته واخواته ومن بقي من النساء والاطفال الى المدينة، ومرورهم بمرقد الامام الحسين بعد حوالي اربعين يوماً من تاريخ الاستشهاد حسب بعض المصادر، ونستلهم من هذه السيدة العظيمة دروس الصبر والشجاعة وبعد النظر، ونحن نحث الخطى في مسيرة المشي لزيارة الأربعين لنرى المرأة، ليس فقط مشغولة بالمطالبة بحقوقها؛ من مال، وحرية، وأمومة، وإنما تتطلع الى حيث الاسهام في البناء الاجتماعي والحضاري في البلد الذي تعيش فيه، وأن تكون جزءاً من الحل، بل وتحمينا من الازمات والمشاكل، لا أن تكون جزءاً من المشكلة.

اضف تعليق