بذل الإمام جهوداً جبّارةً لتثبيت قواعد التوحيد الإلهي وتشييد أركانه عبر الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين، والردّ على الأفكار المنحرفة التي غذّاها الحكّام ـ مثل فكرة الجبر الإلهي ـ بهدف التمكّن من السلطة والسيطرة التامة على مصير الناس والهيمنة على الأفكار بعد السيطرة...
عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) أقسى فترة من الفترات التي مرّت على القادة من أئمّة أهل البيت (عليه السلام)، لأنّه عاصر قمّة الإنحراف الذي بدأ بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
وذلك أنّ الانحراف في زمن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد أخذ شكلاً صريحاً، لا على مستوى المضمون فقط بل على مستوى الشعارات المطروحة أيضاً من قبل الحكّام في مجال العمل والتنفيذ، وانكشف واقع الحكّام لدى الجماهير المسلمة بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الأمة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية.
وقد عاصر الإمام (عليه السلام) كلّ المحن والبلايا التي وقعت أيّام جدّه أمير المؤمنين علىّ (عليه السلام) إذ ولد قبل استشهاد الإمام علىّ (عليه السلام) وتفتحت عيناه وجَدّه (عليه السلام) في محنته في خط الجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ثمّ عاش مع عمّه الإمام الحسن (عليه السلام) في محنته مع معاوية وعُمّالهِ وعملائه، ومع أبيه الحسين (عليه السلام) وهو في محنته الفاجعة إلى أن استقلّ بالمحنة وجهاً لوجه، وقد وصلت به المحنة ذروتها عندما رأى جيوش بني أمية تدخل مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في المدينة وتربط خيولها في المسجد، هذا المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها إلى العالم أجمع، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثير من الذلّ والهوان على يد الجيش الأموي الذي أباح المدينة والمسجد معاً، وهتك حرمات النبي (صلَّى الله عليه وآله) فيهما جميعاً.
وكان القتل هو أبسط الوسائل التي استعملت في ذلك العصر مع المعارضين، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب على الأشجار وتقطيع الأيدي والأرجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي.
وانغمس الأمويون في الترف، وقد ذكر المؤرّخون نوادر كثيرة من ترفهم وتلاعبهم باقتصاد الأمة وثرواتها (حياة الإمام زين العابدين دراسة وتحليل: 665.)، حتى بالغوا في هباتهم للشعراء وأجزلوا العطاء للمغنّين (الأغاني: 1 / 55، 4 / 400، 5 / 111.)، وسادت حياة اللهو والعبث والمجون في كثير من أنحاء العالم الإسلامي وخصوصاً في مكّة والمدينة، وعمدت السلطات الأموية إلى إشاعة ذلك فيهما لإسقاط هيبتهما من نفوس المسلمين.
لقد شاع الغناء في مدينة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بشكل يندى له جبين الإنسان المؤمن بالله وبرسوله، حتى صارت مركزاً له.
قال أبو الفرج: إنّ الغناء في المدينة لا يُنكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم (الأغاني: 8 / 224.).
وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها (العقد الفريد: 3 / 233.)!!.
وكان العقيق إذا سال وأخذ المغنّون يلقون أغانيهم لم تبق في المدينة مخبّأة ولا شابة ولا شابّ ولا كهل إلاّ خرج ببصره ليسمع الغناء (العقد الفريد: 3 / 245.).
نعم غدت المدينة في ذلك العصر مركزاً من مراكز الغناء في الحاضرة الإسلامية وأصبحت معهداً متميزاً لتعليم الجواري الغناء (راجع: الأغاني: 2 / 226، 3 / 307، 4 / 222، 6 / 21، 7 / 316، و 332، 8 / 227، 10 / 57. والشعر والغناء في المدينة ومكة: 250.). بينما كانت الشريعة الإسلامية قد حاربت اللهو والمجنون ودعت الإنسان المسلم إلى حياة الجدّ والاجتهاد والكدح من أجل إعمار حياته الدنيا وحياته الأُخرى بالصالحات واستباق الخيرات وتسلّق قمم الكمال والحرص على أثمن لحظات عمره في هذه الحياة وصيانتها من الضياع والخسران.
أمّا الحياة العلمية في عصر الإمام زين العابدين (عليه السلام) فقد كانت مشلولةً بما حوته هذه الكلمة من معنى، إذ كان الخط السياسي الذي سارت عليه الدولة الأموية منذ تأسيسها يرتكز على مجافاة العلم، وإقصاء الوعي والثقافة من حياة المسلمين، وجرّهم إلى منحدر سحيق من الجهل; لأنّ بلورة الوعي العام وإشاعة العلم بين المسلمين كان يهدّد مصالحهم ودوام ملكهم القائم على استغلال الجهل والغفلة التي روّج لها من تقمّص الخلافة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
أمّا الطابع الخاصّ للحياة الأدبية فتعرفه ممّا جرى على لسان شعراء ذلك العصر، فهو لم يمثّل أيّ مشكلة اجتماعية من مشاكل ذلك العصر على كثرتها، كما أنّه لم يمثّل أيّ جدٍّ في الحياة العقلية والأدبية، وإنّما كان شعراً قَبَليّاً يحكي فيه كلّ شاعر ما امتازت به قبيلته من كرم الضيافة ووفرة المال والعدد، كما غدا الأدب سوقاً للهجاء المرّ والتنابز بالألقاب (حياة الإمام زين العابدين، دراسة وتحليل: 672 ـ 673.).
تخطيط الإمام زين العابدين (عليه السلام) وجهاده
نجد في سيرة الأئمّة (عليهم السلام) العديد من الأدلّة التي أوضحوا من خلالها للناس سبب الاختلاف في أساليبهم في قيادة الحركة الإسلامية من إمام لآخر.
فالإمام السجاد (عليه السلام) قال له عبّاد البصري وهو في طريق مكّة: تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينه، و (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) (التوبة (9): 111.)
فأجابه الإمام (عليه السلام): إقرأ بعدها: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، ثمّ قال (عليه السلام): إذا ظهر هؤلاء ـ يعني المؤمنين حسب مواصفاتهم في الآية ـ لم نؤثر على الجهاد شيئاً (من لا يحضره الفقيه: 2 / 141، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 173 باختلاف يسير في الألفاظ.).
وبهذه الإجابة حدّد الإمام (عليه السلام) بشكل صارم سياسته ولون كفاحه، ووجهة حركته في عصره، ومن ثمّ الأسباب الموجبة لذلك المسار، فإنّ عدوله عن الكفاح المسلّح والمواجهة العسكرية للحكم الأموي لم تأتِ حبّاً في الحياة ونعيمها كما تصوّر عبّاد البصري، وإنّما جاء ذلك لأنّ مستلزمات العمل العسكري الناجح غير متوفرة، ولأنّ النتائج من أيّ تحدٍّ للسلطان في تلك الظروف تكون عكسيّةً تماماً.
وبعد ملحمة كربلاء مباشرةً تبنّى الإمام السجاد (عليه السلام) وكرائم أهل البيت كزينب واُمّ كلثوم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ سياسة إسقاط الأقنعة التي كان الأمويون قد غطّوا وجوه سياستهم الكالحة الخطيرة بها، وحمّلوا الأمة كذلك مسؤوليتها التاريخية أمام الله والرسالة.
ومن هنا نلاحظ بوضوح أنّ الخطب والتصريحات التي صدرت عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) وعقائل أهل البيت (عليهم السلام) في العراق قد انصبّت على مخاطبة ضمائر الناس كمجموع، وإلفات نظر الناس إلى جسامة الخطر الذي حاق بهم، وإلى حجم الجريمة التي ارتكبتها بنو أمية بحقّ رسالة الله تعالى.
وفي الشام ركّزت كلمات الإمام السجّاد (عليه السلام) على التعريف بالسبايا ذاتهم، وأنّهم آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثمّ فضح الحكم الأموي وتعريته أمام أهل الشام الذين أضلّهم عن رؤية الواقع.
وقبل دخوله المدينة عمل الإمام السجاد (عليه السلام) على إثارة الرأي والوعي العام الإسلامي وتوجيهه إلى محنة الرسالة التي تمثّلت في فاجعة الطفّ، فقد كان خطابه الذي ألقاه بالناس يستبطن هذه المعاني.
ولقد أعطت تجربة كربلاء مؤشّراً عملياً على أنّ الأمة المسلمة في حالة ركود وتبلّد ممّا جعل الروح الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنّها كانت معدومة نهائياً، ومن أجل ذلك فإنّ السجاد (عليه السلام) ـ باعتباره إمام الأمة الذي انتهت إليه مرجعية الأمة ـ أخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار، ولذلك مارس دوره من خلال العمل على تنمية التيار الرسالي في الأمة، وتوسيع دائرته في الساحة الإسلامية، والعمل على رفع مستوى الوعي الإسلامي والانفتاح العملي في قطاعات الأمة المختلفة، وخلق قيادات متميزة تحمل الفكر الإسلامي النقي، لا الفكر الذي يُشيعه الحكم الأموي.
ولهذا النهج مبرّراته الموضوعية، فإنّ قوى الانحراف عبر سنوات عديدة من سيطرتها على مراكز التوجيه الفكري والاجتماعي توفّرت على صنع أجيال ذائبة في الانحراف، الأمر الذي أصبح فيه من المتعذّر على التيار الإسلامي السليم مواجهتها، بالنظر لضخامة تلك القوى، وتوفّر الغطاء الواقي لها من مؤسسات وقدرات; ولتعرّض التيار الإسلامي ذاته للخسائر المتتالية.
ومن هنا، فإنّ أمر تكثيف التيار الإسلامي وإثرائه كمّاً وكيفاً مسألة لا تقبل التأجيل، ما دام أمر بقاء الرسالة حيّة ـ فكراً وعملاً ـ متوقّفاً على بقاء سلامة هذا التيار في كيان الأمة وقواعدها الشعبية، طالما لم يتسنّ له تسلّم المرجعية العامة في الإدارة والحكم.
ولقد نجحت خطط الإمام (عليه السلام) على شتّى الأصعدة وحسبما خطّط لها، وفيما يلي مصداقان عمليان على ذلك:
ففي المجال الاجتماعي أثمرت خطّة الإمام (عليه السلام) حيث حظي بإجلال القطّاعات الواسعة من الأمة وولائها، والمصادر التاريخية مجمعة على ذلك. قال ابن خلّكان: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلمّا انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ
هذا ابنُ خير عبادِ الله كُلِّهمُ = هذا النقيُّ التقيُّ الطاهرُ العلَمُ
إذا رأتْهُ قريشٌ قالَ قائِلُها = إلى مَكارمِ هذا يَنتهي الكرَمُ
مشتقَّةٌ من رسولِ الله نبعتُه = طابتْ عناصرُه والْخِيمُ والشِّيَمُ
هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ = بِجَدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا
الله شرَّفَهُ قِدْماً وعضَّله = جرى بذاك له في لوحِهِ القلَمُ
فليسَ قولُك مَنْ هذا بِضائِرهِ = أَلْعُرْبُ تَعرف مَن أنكرتَ والعجَمُ
مِنْ مَعشرٍ حبُّهمْ ديٌ، وبُغضُهُمُ = كفرٌ، وقربهمُ منجى ومُعْتَصَمُ
إنْ عُدَّ أهلَ التُّقى كانوا أئمتهم = أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيلَ هُمُ
أيُّ الخلائقِ ليستْ في رقابهمُ = لأَوَّلِيَّةِ هَذا أولُهُ نِعَمُ
مَن يَعُرِفِ الله يَعْرِفْ أَوَّلِيَّة ذا = أَلدِّيْنَ مِنْ بَيْتِ هَذا نَالَهُ الأُمَمُ
(القصيدة طويلة وهي مذكورة في كثير من المصادر التأريخية والأدبية، اُنظر: وفيات الأعيان لابن خلّكان: 6 / 96، الإرشاد للمفيد: 2/150، 151 عن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام) وراجع غيرهما من المصادر في أوائل الفصل الأوّل من الباب الأوّل.)
إنّ هذه الحادثة توضّح أنّ الإمام (عليه السلام) كان قد حظي بولاء جماهيريٍّ حقيقيٍّ واسع النطاق، بشكل جعل ذلك الولاء يتجسّد حيّاً حتى في أقدس ساعة، وفي موقف عباديّ مشهود، فما أن تلتقي الجماهير الكثيفة بإمامها الحقّ; حتى توسّع له، لكي يؤدّي مناسكه دون أيّة مضايقة عفوية منها، بالرغم من أنّ الأمة تدرك عداء الحكم الأموي لأهل البيت (عليهم السلام) وما يترتّب على ذلك العداء من موقف تجاه أنصار أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم.
وحقّق النشاط العلمي للإمام (عليه السلام) غاياته المتوخّاة، فالمسجد النبويّ الشريف ودار الإمام (عليه السلام) شهدا طوال خمسة وثلاثين عاماً ـ وهي فترة إمامته ـ نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام (عليه السلام) طلاّب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها، لا في المدينة المنورة ومكّة المكرمة وحدهما، وإنّما في الساحة الإسلامية بأكملها، حتى استطاع أن يخلق نواة مدرسة فكرية لها طابعها ومعالمها المميّزة، وتخرّج منها قادة فكر ومحدّثون وفقهاء.
إنّ انفصام عرى الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وتَشَتُّت قُواهم كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام زين العابدين (عليه السلام) باتّجاه استجماع القوى وتكميل الإعداد من جديد، وقد كان هذا الهدف بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب وبثّ العزم في النفوس، وقد تمكّن الإمام زين العابدين (عليه السلام) بعمله الهادئ والمنظّم أن يشرف على تكميل هذه الاستعادة، وعلى هذا الإعداد بكل قوّة وبحكمة وبسلامة وجدّ.
وقد أطلق الإمام (عليه السلام) نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك. ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعدّدة:
1 ـ الجهاد الفكري والعلمي:
من المعلوم أنّ الفكر السليم هو أحد مقوّمات كلّ حركة سياسية صحيحة، فتثقيف الجماهير وتوعيتها لتكون على علم بما يجري عليها وحواليها وما يجب لها وعليها من حقوق وواجبات هو الركيزة الأولى لِصدّ الأنظمة الحاكمة الفاسدة التي تسعى على طول التأريخ في إبعاد الناس عن الحقّ والتعاليم الأصيلة.
وقد قام الإمام زين العابدين (عليه السلام) بأداء دور مهمّ في هذا الميدان، حيث تصدّى للوقوف بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث (كانت عملية منع الحديث ـ تدويناً ورواية ـ قد بدأت بعد وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) مباشرة.) فأمر برواية الحديث وحثّ على ذلك، وكان يطبّق السنّة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها، وقد روي عنه قوله (عليه السلام): إنّ أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ (المحاسن: 221 ح133.).
وفي الظروف التي عاشها الإمام (عليه السلام) ـ حيث كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره وأصوله والذي تمثّل في حفظة القرآن ومفسّريه ـ كانت الدعوة إلى الاعتصام بالقرآن من أهم الواجبات آنذاك، ولقد قام الإمام زين العابدين (عليه السلام) بجهد وافر في هذا المجال.
قال (عليه السلام): (عليك بالقرآن، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ منها قال له: إقرأ وارق، ومن دخل الجنّة لم يكن في الجنّة أعلى درجة منه، ما خلا النبيّين والصدّيقين) (تفسير البرهان: 3 / 156.). وكان يقول: (لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) (بحار الأنوار: 46 / 107.).
كما كان يسعى في تمجيد القرآن عملياً وبأشكال مختلفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن (المصدر السابق: 70، ب5، ح45.)، كما كان يرشد الأمة من خلال تفسيره للقرآن الكريم (الاحتجاج: 312 ـ 319.).
وبذل الإمام (عليه السلام) جهوداً جبّارةً لتثبيت قواعد التوحيد الإلهي وتشييد أركانه عبر الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين، والردّ على الأفكار المنحرفة التي غذّاها الحكّام ـ مثل فكرة الجبر الإلهي ـ بهدف التمكّن من السلطة والسيطرة التامة على مصير الناس والهيمنة على الأفكار بعد السيطرة على الأفواه والأجسام، وقد ذكرنا أنّ الإمام (عليه السلام) قال لابن زياد الذي أراد أن ينسب قتل عليّ بن الحسين إلى الله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)، فالإمام تحدّى الحاكم في مجلسه حين ردّ على الانحراف العقائدي بتلك الصراحة، وبيّن الفرق بين التوفّي للأنفس واسترجاعها ـ الذي نسبه القرآن إلى الله تعالى حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ـ وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور.
وفي جوابه (عليه السلام) عن سؤال: أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟ قال (عليه السلام): (إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد... ولله فيه العون لعباده الصالحين)، ثمّ قال (عليه السلام): (ألا من أجور الناس من رأى جوره عدلاً، وعدل المهتدي جوراً) (التوحيد للصدوق: 366.).
وهكذا تصدّى الإمام (عليه السلام) لعقيدة التشبيه والتجسيم (كشف الغمة: 2 / 89.)، وفكرة الإرجاء (جهاد الإمام السجاد: 107.).
وعلى صعيد الإمامة والولاية أعلن الإمام (عليه السلام) عن إمامته بنفسه بكلّ وضوح وصراحة ومن دون أيّة تقيّة أو سريّة، وقد تعدّدت الأحاديثالمصرّحة بهذا الإعلان، منها قوله (عليه السلام): (نحن أئمّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين وقادة الغرّ المحجّلين وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء... ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها، ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله فيها، ولو لا ذلك لم يعبد الله) (أمالي الصدوق: 112، الاحتجاج: 317.).
وقال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي: قال لي عليّ بن الحسين (عليه السلام): (إلى مَن يذهب الناس؟) قال: قلت: يذهبون ها هنا وها هنا، قال: (قل لهم يجيئون إليّ) (تأريخ دمشق: الحديث 21.).
وقال له أبو خالد الكابلي: يا مولاي، أخبرني كم يكون الأئمّة بعدك؟ قال: (ثمانية لأنّ الأئمّة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) اثنا عشر إماماً، عدد الأسباط، ثلاثة من الماضين، وأنا الرابع، وثمانية من ولدي...) (كفاية الأثر: 236 ـ 237.).
والانحراف الذي حصل عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لم ينحصر في إقصائهم عن الحكم والولاية فقط، بل انتهى إلى الجهل بأحكام الشريعة التي كان الأئمّة هم المرجع الواقعي والصحيح للتعرّف عليها.
فالإمام ليس وليّاً للأمر وحاكماً على البلاد والعباد فحسب، وإنّما هو مصدر يرجع إليه لفهم الشريعة وتبيين أحكامها، باعتبار معرفته التامة بالشريعة الخاتمة وارتباطه الوثيق بمصادرها الحقيقيّة.
وكما أقصى الحكّام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عن الحكم والولاية; حاولوا كذلك نفي مرجعيتهم الدينية والعلميّة وإبعاد الناس عنهم، لذلك اهتمّ الأئمّة وأتباعهم بإرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلامية كي ينهلوا منه، وكان اهتمام الإمام السجاد (عليه السلام) بليغاً بهذا الأمر حتى قال (عليه السلام) لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية: (يا هذا، لو صرت إلى منازلنا لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أيكون أحدٌ أعلم بالسنّة منّا) (نزهة الناظر: 45.).
وقال (عليه السلام): (إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، لا يُصاب إلاّ بالتسليم، فمن سلّم لنا سَلِم، ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه ـ ممّا نقوله أو نقضي به ـ حَرَجاً كفر بالّذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم) (إكمال الدين: 324، الباب 31، الحديث 9.).
2 ـ الجهاد الاجتماعي والعملي:
إنّ أهّم أهداف القادة الإلهيّين هو إصلاح المجتمع البشريّ بتربيته على التعاليم الإلهية، ولا بدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك، فعليه:
1 ـ أن يربّي جيلاً من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها الدين والأخلاق القيّمة التي ينبغي التخلّق بها، لكي يكونوا له أعواناً على الخير.
2 ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله، ويحضر بين الناس، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه، ويبلغهم رسالات الله.
3 ـ أن يقاوم الفساد الذي يبثّه الظالمون في المجتمع بهدف شلّ قواه، وتفريغه من المعنويات، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير.
كان للإمام (عليه السلام) نشاط واسع في كلّ هذه المجالات، بحيث يعدّ ـ بحقٍّ ـ في صدر قائمة المصلحين الإلهيين بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني أمية على الأمة وعلى مقدّراتها وجسم الخلافة الإسلامية التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه تحت عنوان الخروج على الإسلام.
ويمكن الحديث عن أوجه نشاطه (عليه السلام) العملي في الجانب الاجتماعي على عدّة أوجه منها:
أ ـ الأخلاق والتربية (على مستوى الأمة وأتباع أهل البيت (عليهم السلام)):
ضرب الإمام زين العابدين (عليه السلام) أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة وفي سيرته مع الناس، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات.
فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية، والشرف السامق، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وأناة وهدوء.
فالصبر الذي تحلّى به وتجلّى لنا من خلال ما تحمّله في مأساة كربلاء أكبر شاهد على عظمة صبره.
ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي بارزة للعيان، وهذا الفصل يمثّل جزءاً من نشاطه السياسي والاجتماعي الجادّ.
وحديث مواساته للإخوان والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام بالبذل والعطاء والإنفاق ممّا اشتهر عند الخاصّ والعامّ.
وحُنوّه وحنانه على العبيد وعلى الأقارب والأباعد بل على أعدائه وخصومه ممّا سارت به الركبان.
وأخبار عبادته وخوفه من الله جلّ جلاله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ملأت الصحف حتى خصّ بلقب (زين العابدين) و (سيّد الساجدين). وسنتحدّث عن بعض ذلك فيما بعد بإذنه تعالى، كما أنّنا أشرنا إلى جانب بسيط جدّاً من ذلك سابقاً.
ب ـ الإصلاح والدولة:
لقد شاع عند بعض المؤرّخين أنّ الأئمّة من أبناء الحسين (عليه السلام) قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلى الإرشاد والعبادة والانقطاع إلى الدنيا (نشأة الشيعة والتشيّع، للشهيد السيّد محمد باقر الصدر.).
ويدلّلون على قولهم هذا بتأريخ حياة الإمام السجاد (عليه السلام) ودعوى انعزاله عن الحياة الإسلامية العامة، ويبدو أنّ سبب هذه التصوّرات الخاطئة لدى المؤرّخين هو ما بدا لهم من عدم احتدام الأئمّة بعد الحسين (عليه السلام) على عمل مسلّح ضد الوضع الحاكم مع إعطائهم الجانب السياسي من القيادة معنىً ضيّقاً لا ينطبق إلاّ على عمل مسلّح من هذا القبيل.
إنّ ما يقال من أنّ الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) من أبناء الحسين (عليه السلام) اعتزلوا السياسة وانقطعوا عن الدنيا فهو زعم يكذّبه وينفيه واقع حياة الأئمّة الزاخرة كلّها بالشواهد على ايجابية المشاركة الفعّالة التي كانوا يمارسونها.
فمن ذلك علاقات الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالأمة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق والتي كان يتمتّع بها على طول الخط (قد أشرنا إلى حادثة استلام الإمام (عليه السلام) للحجر بعد أن انفرج الحجيج له، راجع الصفحة 111 من الكتاب.); فإنّ هذه الزعامة لم يكن ليحصل عليها الإمام (عليه السلام) صدفةً أو على أساس مجرّد الانتساب إلى الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، بل على أساس العطاء والدور الايجابي الذي كان يمارسه الإمام في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم; فإنّ الأمة لا تمنح ـ على الأغلب ـ الزعامة مجاناً، ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتلّ قلوبها بدون عطاء سخيّ منه تستشعره الأمة في مختلف مجالاتها، وتستفيد منه في حلّ مشكلاتها والحفاظ على رسالتها.
ومع أنّ مزاولات الإمام (عليه السلام) الدينية كلّها من صميم العمل السياسي وخاصّةً في عصره حيث لم يُسمع نغمُ الفصل بين السياسة والدين بعد، نجد في طيّات حياة الإمام (عليه السلام) عيّنات واضحة من التدخّلات السياسية الصريحة، فهو كما يبدو من النصوص الصادرة عنه تجده رجلاً مشرفاً على الساحة السياسية، يدخل محاورات حادّة، ويتابع مجريات الأحداث، ويدلي بتصريحات خطيرة ضد الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمة وإليك بعض النماذج على ذلك:
1 ـ قال عبد الله بن الحسن بن الحسن: كان عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخّر مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما، فتحدّثا ليلة، فذكروا جور من جار من بني أمية والمقام معهم، فقال عروة لعليّ: يا عليّ، إنّ من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رُجي له أن يسلم ممّا أصابهم.
قال: فخرج عروة، فسكن العقيق.
قال عبد الله بن الحسن: وخرجت أنا فنزلت سويقة (مختصر تأريخ دمشق: 17 / 21.).
أمّا الإمام (عليه السلام) فلم يخرج، بل آثر البقاء في المدينة طوال حياته; لأنّه كان يعدّ مثل هذا الخروج فراراً من الزحف السياسي وإخلاءً للساحة الاجتماعية للظالمين، يجولون فيها ويصولون (جهاد الإمام السجاد (عليه السلام): 154.).
ولعلّ اقتراح عروة بن الزبير ـ وهو من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) (لاحظ تنقيح المقال: 2 / 251.) ـ كان تدبيراً سياسياً منه أو من قبل الحكّام لإبعاد الإمام (عليه السلام) عن الحضور في الساحة السياسية والاجتماعية، لكنّه (عليه السلام) لم يخرج وظلّ يواصل مسيرته الجهادية.
2 ـ قال (عليه السلام): (إنّ للحق دولة على العقل، وللمنكر دولة على المعروف، وللشرّ دولة على الخير، وللجهل دولة على الحلم، وللجزع دولة على الصبر، وللخرق دولة على الرفق، وللبؤس دولة على الخصب، وللشدّة دولة على الرخاء، وللرغبة دولة على الزهد، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة، فنعوذ بالله من تلك الدول ومن الحياة في النقمات) (تأريخ دمشق: 41/410، مختصر ابن منظور: 17 / 255.).
وإذا كانت الدولة في اللسان العربي هي الغلبة والاستيلاء ـ وهي من أبرز مقومات السلطة الحاكمة ـ فإنّ الإمام (عليه السلام) يكون قد أدرج قضية السلطة السياسية في سائر القضايا الحيوية والطبيعية التي يهتمّ بها ويفكّر في إصلاحها.
فمن يا ترى؟ ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره (عليه السلام)؟ وهل التعوّذ بالله تعالى من دولة السلطان يعني أمراً غير رفض وجوده والتنديد بسلطته؟ وهل يتصوّر السياسي أن يكون له حضور أقوى من هذا في مثل ظروف الإمام (عليه السلام) وموقعه وضمن تخطيطه الشامل في قيادة حركيّة الإسلام؟ وهل يصدر مثل هذا من رجل ادُّعي أنّه ابتعد عن السياسة أو اعتزلها؟.
ج ـ مقاومة الفساد:
وإذا كان من أهم واجبات المصلح وخاصةً المصلح الإلهي مقاومة الفساد ومحاربة المفسدين في الأرض; فإنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) قام بدور بارز في أداء هذا الواجب.
وقد تميّز عصره (عليه السلام) بمشاكل اجتماعية من نوع خاص، وقد تكون موجودة في كثير من العصور، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحاً ومكثّفاً، كما أنّ الإمام (عليه السلام) قام بمعالجتها بأسلوبه الخاصّ، ممّا أعطاها صبغة فريدة تميّزت في جهاد الإمام (عليه السلام) وأهمها مشكلة الفقر العام ومشكلة الرقّ والعبيد.
اضف تعليق