التناقض بين مستويات الأسعار المرتفعة والانخفاض الحاد في معدلات التضخم هو المشكلة الاقتصادية الرئيسية التي ستؤثر على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. ففي الأوقات العادية، تناقش الحملات الانتخابية أيا من المرشحين يملك الحل الأفضل. ولسوء الحظ، لا نعيش حاليا في أوقات عادية. إن الوضع الحالي للسياسة الأمريكية...
بقلم: ستيفن روتش

نيوهيفن- يسعى خبراء الاقتصاد جاهدين للتوفيق بين وجهات نظرهم المتفائلة فيما يتعلق بالاقتصاد الأميركي والقلق الذي يشعر به الأميركيون العاديون. إن المقاييس الرئيسية للأداء الاقتصادي، التي تتمثل في النمو، والبطالة، والتضخم تكاد تكون سليمة تماما، مما يضع الولايات المتحدة في موقف قوي تُحسد عليه. ولكن استباقا للانتخابات الرئاسية المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني، لازال الناخبون يتحدثون عن الاقتصاد باعتباره مسألة ذات أولوية قصوى. وتكمن مشكلته الرئيسية في التضخم.

كيف يُعقل أن يحصل هذا؟ إن ما يثير سخط أغلب خبراء الاقتصاد أن هذا الكم من القلق يبدو في غير محله على الإطلاق. فقد تراجعت حدة صدمة كوفيد-19 التي تعرضت لها الأسعار في الولايات المتحدة من ربيع عام 2021 إلى أواخر عام 2023 تراجعا كبيراً. صحيح أننا ما زلنا ننتظر إشارة واضحة تشير إلى أن التضخم يتراجع إلى الهدف المحدد في 2 في المئة الذي يعتبره بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي هدفا يتسق مع استقرار الأسعار. ولكن يبدو واضحا أن هناك انخفاض كبير في مخاطر التضخم.

وبطبيعة الحال، هناك جانب سلبي ملحوظ في هذا الانخفاض: فحتى لو تراجع التضخم إلى مستويات ثابتة- وإن لم يكن بالسرعة التي توقعها في وقت سابق المتفائلون من "المجموعة التي تعتقد أن التضخم مؤقت"، فإن هذه النتيجة تنطوي على مشكلة سياسية خطيرة، وهي أن الأسعار مرتفعة للغاية، ومن المرجح أن تظل كذلك لسنوات عديدة قادمة.

وعندما اَستخدم كلمة "الأسعار" بدلاً من التضخم، فإنني لا أبالغ في الدقة. إذ يصور التضخم التغيرات في إجمالي الأسعار، وهوما يختلف كثيرا عن مستوى مؤشر الأسعار. ويؤثر هذا الاختلاف بصورة حاسمة على المناقشة السياسية قبل الانتخابات: يركز فريق الرئيس جو بايدن على معدل التضخم في حين أن الشعب الأمريكي معني أكثر بمستوى الأسعار.

وليس هناك جدل كبير بخصوص التقدم المحرز في مجال التضخم. فبعد ارتفاعه إلى أعلى مستوى له بعد الوباء بنسبة 9.1 في المئة في يونيو/حزيران 2022، تراجع معدل التضخم الإجمالي مقاسًا بمؤشر أسعار المستهلك منذ ذلك الحين إلى متوسط 3.3 في المئة على مدى الأشهر الـ11 الماضية- وهو انخفاض أو "تراجع في التضخم" إلى مستويات غير عادية خلال هذه الفترة القصيرة. ومع ذلك، لا يزال التضخم أكثر من ضعف متوسط معدله البالغ 1.5 في المئة على مدى السنوات السبع التي سبقت فيروس كورونا، وهو أعلى بكثير من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي المحدد في 2 في المئة، وفقا لمقياس مختلف قليلاً، وهو مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي القائم على الناتج المحلي الإجمالي.

ولكن هذا التعافي شبه الكامل من صدمة التضخم في الفترة 2021-2023 يتناقض تناقضا حادا مع مستوى الأسعار الذي لا يزال مرتفعا. وهنا تكمن المشكلة السياسية التي يواجهها بايدن: كما يُظهر الرسم البياني، مع أن مستويات التضخم تراجعت في الآونة الأخيرة، كان مؤشر أسعار المستهلك الرئيسي في مايو/أيار أعلى تماما بنسبة 20 في المئة من مستواه في يناير/كانون الثاني 2021، عندما تولى بايدن مهام منصبه.

 

منذ يناير/كانون الثاني 2021، واصلت مستويات الأسعار الارتفاع خاصة في مجال الطاقة (41 في المئة)، والنقل (40 في المئة)، والسكن (22 في المئة)، والغذاء (21 في المئة)، والتي تمثل معًا 63 في المئة من سلة المستهلك الأمريكي النموذجية من السلع الاستهلاكية والخدمات. ويُطلق عليها اسم المشتريات الأساسية لسبب وجيه: لا تستطيع العائلات العيش بدونها.

ويشير تقدير تقريبي إلى أنه اعتبارا من شهر مايو/أيار، كان مستوى السعر الإجمالي، مقاسا بمؤشر أسعار المستهلكين الرئيسي، أعلى بنحو 15 نقطة مئوية عما كان ليصبح عليه لو حافظ مؤشر أسعار المستهلكين على نسبته قبل كوفيد-19 المتمثلة في 1.5 في المئة. ولا عجب أن يكون الأميركيون متشائمين جدا بخصوص الاقتصاد. إن معدلات ارتفاع الأسعار، خاصة أسعار الضروريات الأساسية، أعلى من معدلات هبوط التضخم. وحتى لو تراجع التضخم إلى مستويات أدنى، كما هو متوقع، فإن مستوى الأسعار سيظل مرتفعا على نحو مزعج وسيستمر في الارتفاع، ولو بوتيرة أبطأ. إن فترة مستدامة من الانكماش الصريح- وهو تطور خطير لأي اقتصاد- هي الوسيلة الوحيدة لدفع المستوى الإجمالي للأسعار إلى الانخفاض.

ويبدو أن التناقض بين مستويات الأسعار المرتفعة والانخفاض الحاد في معدلات التضخم هو المشكلة الاقتصادية الرئيسية التي ستؤثر على الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. ففي الأوقات العادية، تناقش الحملات الانتخابية أيا من المرشحين يملك الحل الأفضل. ولسوء الحظ، لا نعيش حاليا في أوقات عادية. إن الوضع الحالي للسياسة الأمريكية يتطلب التركيز بقدر أكبر على تحديد الخطأ ومصدره. فمنذ أن سخِر الرئيس السابق جورج بوش الأب من "مسألة الرؤية" قبيل الانتخابات الرئاسية في عام 1988، ركز الرأي العام الأميركي قصير النظر على لعبة توجيه اللوم.

وقد اقترح بايدن رؤية لحل هذه المشكلة الشائكة، أبرزها قانون الحد من التضخم واستراتيجية لإزالة الاختناقات في سلاسل التوريد. ومن المرجح أن يعتمد المرشح الجمهوري المفترض، الرئيس السابق دونالد ترامب، نهجا مختلفا، خصوصا بسبب ميله إلى زيادة التعريفات الجمركية، وزيادة الصراع التجاري، وتراجع قيمة الدولار، وكل هذا من شأنه أن يفاقم التضخم.

ولكن مع تصاعد حدة لعبة إلقاء اللوم، فإن ترامب سوف يُحَمل بلا شك بايدن المسئولية عن الارتفاع المفرط في مستوى الأسعار الإجمالي منذ يناير/كانون الثاني 2021. وبطبيعة الحال، يمكن لبايدن أن يرد على الانتقادات ويلوم ترامب على صدمة الأسعار الناجمة عن الوباء- وأيضا إخفاق أميركا في الاستجابة لكوفيد- 19.

فهل سيختار المرشحون الرؤية الإيجابية أم لعبة إلقاء اللوم السلبية؟ من سيقدم أكثر الحجج إقناعا؟ أتمنى لو كان بوسعي أن أكون أكثر تفاؤلاً، ولكن يبدو أنه من غير المرجح أن نخوض في مناقشة متحضرة بخصوص الاقتصاد القائم على السياسات المنطقية. ونصيحتي هي أن نأمل في اتخاذهم للرؤية الإيجابية، ولكن علينا أن نكون مستعدين للعبة اللوم، والاعتراف في الوقت نفسه بالاختلاف الكبير بين مستويات التغيرات في الأسعار ومعدلاتها.

* ستيفن س. روتش، عضو هيئة التدريس في جامعة ييل والرئيس السابق لمورجان ستانلي آسيا، هو مؤلف كتاب "غير متوازن: الاعتماد المتبادل بين أمريكا والصين"، والصراع العرضي: أمريكا والصين وصراع القوى.. روايات كاذبة

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق